ما كان ليهنأ لي بال لو حيل بيني وبين قسم اللغة العربية وآدابها، يوم اختلفت إلى جامعة الملك عبد العزيز بجدة، عام 1405، وما كنت لأرضى، أبدا، بأن تلحقني الجامعة بكلية الاقتصاد والإدارة؛ لأنها الكلية التي تلائم شهادتي الثانوية التجارية. وظل الأمر بيني وبين الجامعة سجالا، يصدر جدولي في رأس كل فصل دراسي بمواد في الإدارة والمحاسبة والمالية، وأكابد مشقة وعنتا، لأستبدل بها مقررات في اللغة وآدابها، حتى استيأس القائمون على أمر القبول والتسجيل مني، وألحقوني، بعد ثلاثة فصول، بقسم اللغة العربية وآدابها.

كنت قد أخذت على نفسي عهدا، بأن لا أدرس إلا في قسم سيبويه، وكلية طه حسين، فما لي وللمحاسبة والمالية. غير أني لم أستطع أن أدفع عن نفسي شعورا بالغربة والخوف، أما الغربة فلشهادة الثانوية التجارية، وأني معدودٌ، بحكم النظام، طالبا في كلية الاقتصاد والإدارة، وأما الخوف فأن أكره على مغادرة ألفية ابن مالك إلى المحاسبة وأخواتها. وكنت لا أجسر على مخالطة طلاب القسم أو الاتصال بالأساتذة، للخجل الذي جبلت عليه، ولمحاذرتي غشيان المجتمعات ومخالطة الناس، على أنني اعتدت أن أرى، كل يوم، طالبا انطبعت صورته في ذهني، في دروس الأساتذة، وعرفت أن الزميل الجديد عايض سعيد القرني يبتغي معادلة ما تلقاه، من قبل، في جامعة الملك سعود بما يدرسه في جامعة الملك عبد العزيز، واستطاع أن يؤنس وحشتي، وأن يتألف قلبي، وأن يذهب عني الغربة والخوف، وأن يجعلني زميلا جديدا في القسم، وأن أشاركه، ونحن نقف في ممراته، حب اللغة العربية، وكان وقوفنا ذلك الطويل إمتاعا ومؤانسة، وتمرنا على حياة في الثقافة والأدب كنا نشيم بروقها، من بعيد، وكنت كلما التقيت الدكتور عايض سعيد القرني، تأخذني الذكرى، من فوري، إلى الممر الطويل، ومكاتب الأساتذة، وأحاديث لا تنتهي في التراث والحداثة واللغة والأدب.

لم يكن قسم اللغة العربية وآدابها، أول عهدي به، كثير الطلاب، يستوي في ذلك الذين سبقوني بأعوام، والألى ساووني في الدفعة، وكان من حسنات الجامعة أن تجمع الجدد والقدماء في غير درس، فعرفت نفرا ممن سبقني، وكان سبقهم يضفي عليهم مسحة من القدم أو الخضرمة، لا أحسها في نفسي ولا في زملاء الدفعة، فنحن، عندهم، زغب الحواصل، أما هم فصقور ضرستهم الأيام، وعرفوا من المواد ومن الأساتذة فوق ما نعرف، فلما تقدمنا في الدرس، صرنا «أشياخ» القسم، حتى إذا كان الفصل الجامعي الأخير، داخلني إحساسٌ أني غريبٌ بين وجوه لا أعرفها!

شدهني صندوق التراث، وأوشكت أبيات ألفية ابن مالك أن تكون لحنا بديعا، وأنا أدير على لساني كلمات بحرها البطيء الراتب، فإذا حان درس النقد القديم، أو البلاغة، أو تاريخ الأدب، خيل إلي أنني عدت إلى الجذور، مهما خايلتنا أفانين الحداثة والأدب الجديد، فكانت الدروس، وكانت القراءة الحرة جسرا يصلني بتراث أنا واحدٌ من أبنائه، وثقافة ما زادتني الأيام إلا اعتزازا بها، مهما طوحت بي دروب الثقافة ومسالكها. على أنني ما كنت مقطوع الصلة بالعصر، وربما كان جيلنا محظوظا ومتحيرا، إذ شهد، من كثب، نشوء حركة الحداثة، ونموها، واكتهالها، وحسبك أن الدكتور عبد الله الغذامي من أساتذة قسمنا، لكن لنا في القسم والجامعة نبأ آخر، فطلاب القسم ذوو منزع هو أدنى إلى التقليد والاتباع منه إلى الحداثة، كان نفرٌ منهم أوفياء لدروس عرفوها، من قبل، في المعاهد العلمية. عرفوا، هناك، شروح الألفية، وكان اتصالهم بالبلاغة، والتجويد، والفقه، والعقيدة قديما، أما الثانوية التجارية، التي تحدرت منها، فدروس اللغة العربية فيها تشبه حسو الطائر، على أننا، جميعنا، حيرتنا «الحداثة»، فما كان سهلا على طلاب المعاهد العلمية، ولا سواهم أن يسيغوها، أول عهدهم بمشكلاتها، ولم يكن لي، أنا الذي اعتدت تأوهات الرومنطيقيين، أن أقبل، طائعا، على أدب جديد، ومسائل في النقد لا تستقيد لمن طلبها، معجلة، لكنني مغرمٌ بمدارسة ما لا أعرفه، وما هي حتى بت أقرب إلى هذا التيار الذي طالما أغرانا بفهم جديد لأدبنا وتراثنا وثقافتنا.

ولأعد إلى الزملاء الذين سبقوني في الدرس، فلبعضهم قصة تستحق أن تروى. جمعتني دروس التخصص بثلة من قدامى الطلاب، كان جبريل أبو دية واسطة عقدهم. وأول ما شدني إليه صوته العريض، وقدرت أن صاحبه جدير أن يبوأ مكانا في الإذاعة. إذا تحدث اقتضاك أسلوبه الجميل على أن تصغي إليه، كان جريئا مقداما، حسن اللغة، ثم عرفت أن له صلة بإذاعة جدة، وأنه كان من أنبه مذيعيها، أما ما استجلب عيني فهندامه الحسن، كان أنيقا، وكان الأساتذة يوقرونه ويباسطونه. كان نجما لامعا في سماء قسم اللغة العربية، بل في محيط جامعة الملك عبد العزيز.

اتصلت أسبابي بجبريل، وكنت مزهوا بصداقته. كان ذا أسلوب آسر في حديثه، سريع النكتة، متشبعا بروح الأدب الحديث. كان معدودا، بين زملائه، بأنه حداثي، وكنت أغبطه على أن لم تتنازعه الاتجاهات، أيها يختار، وأيها يدع. ولست أدري، حتى اليوم، أتقلب جبريل بين هذا المنزع وذاك، لكنني أعرف أنه أخذ من الأدب ما يهواه، ومن الثقافة ما يلائمه، أراد أن يكون أديبا قصاصا، فجعل ينشر في الصحافة قصصه القصيرة، ثم رأى أن يجمعها في كتاب دعاه «تداعيات الرجل الرمادي»، وكان حقيقا أن يعطي الأدب والقصة عنايته، وإنه لو فعل لكان لما ينشئه مقامه في أدبنا. على أن الصحافة استهوته، كما استهوته الإذاعة، فاتصل بملحق الأربعاء، بصحيفة المدينة المنورة، حينا من الزمان، وعمل مدرسا، فلم يحتمله المحافظون، فتحول إلى الإذاعة، وبارح جدة، واتخذ الرياض دارا وسكنا، وسعى إلى القناة الأولى في التلفزيون السعودي، ولمع نجمه في البرامج الثقافية والفنية، قبل أن يستقر، بآخرة، في نشرات الأخبار، وصار كبير مذيعيها. على أن نشرة الأخبار لم تصده عما جبل عليه، من حب للنكتة في غير سرف، وعذوبة في المنطق، من دون تكلف، ولا شك أن الإذاعة وأن التلفزيون وجد فيهما ما ابتغاه، منذ جمعتنا، معا، دروس اللغة العربية وآدابها، في عام 1406، وكنت كلما أشرف علينا من شاشة التلفاز تحملني الذكرى إلى جبريل، إلى ذلك الفتى الضمدي الأنيق، إلى صديقي الذي أرادته الإذاعة وأراده التلفزيون خالصا لهما، لا ينازعهما فيه أحد، ويأخذني صوته إلى دروس الجامعة، ونادي المسرح، ونادي جدة الأدبي، وإلى أيام جمعتنا مرات، في جدة، والرياض، والعين، والقاهرة، والجزائر، وكان كلما التقيته، حبيبا قريبا، لا يفارقه الضحك ولا الابتسام، مهما كلفته الأيام ألوانا من الألم والحزن.