أتحسب أن الشعر جمرات من الإحساس؟

الجمرات تحرق، والإحساس العنيف يعقد اللسان.

وإنما يكون الشعر عندما يسكن العنف وتهدأ حدقة العين فتستطيع الإبصار.

محمد مندور

كان الشاعر والناقد ت. س. إليوت يلح، كثيرا، على أن الشعر ليس عاطفة وإنما هو هروب من العاطفة، وكان صاحب «التقاليد والموهبة الفردية» إنما يقاوم بحرا خضما من الأفكار الرومنطيقية، تلك التي تعتد الشعر فيضا تلقائيا، يصدر عن صاحبه صدورا ذاتيا؛ فالشاعر، عند الرومنطيقيين، يمتاز، من غيره، بعاطفة حارة وإحساس يفوق سواه من الناس، ولم يكن دفع هذا التصور بالأمر اليسير، فما بالك بمن يرى الشعر هروبا من العواطف، وأن على المنشئ أن يدافع ذلك الفيض الذي ينهال عليه، متى أحس أن عليه أن ينظم في هذه الحادثة أو تلك شعرا، فآلة الأدب، وآلة الشعر ليستا إلا القدرة لا العاطفة، بل إن هذه الأخيرة خطر على الشعر متى ما أردناه قويا مؤثرا، وحسب الأديب – والرومنطيقي خاصة - أن يتقي ذلك الوهم الذي يحسب الشعر عاطفة تغلب على صاحبها، فإذا بالشعر على لسانه وقلمه.

تذكرت كلام إليوت، واستعدت معه مذهبا أخذ به الفيلسوف الإيطالي كروتشه، ورأيا طالما دعا إليه ناقدنا العربي الكبير محمد مندور؛ فصاحب الميزان الجديد، يعتد هذا اللون من الشعر أدنى إلى «الميوعة اللفظية» و«الطرطشة العاطفية»، تذكرت كل هذا المذاهب في الأدب والنقد وفلسفة الجمال، ساعة قرأت قصيدة «حبيبتي بين الركام» للشاعر عبد العزيز خوجه، نظمها عقب النكبة التي حلت بمرفأ بيروت، وأحدثت من الدمار ما تقصر عنه كلمات اللغة، وإذا بيروت مدينة منكوبة، لا تعرف إلا الموتى والجرحى، وإلا من ألفوا أنفسهم، فجأة، دون بيوت تؤويهم، ولف الحزن المدينة كلها، بل لبنان، بل العالم أجمع. وبينما اختلط الحزن والألم بالحيرة والدهش، وبينما تعثرت الحروف في الأفواه، وانعقدت الألسنة، إذا بنا نطالع قصيدة كانت بيروت المنكوبة الثكلى موضوعها، ولعلها كانت أول ما قيل في هذا الحادث الجلل، وعساها لما تحولت، سريعا، إلى أغنية، كانت أول ما صدحت به حنجرة في هذا العالم الكئيب.

قال عبد العزيز خوجه:

وبحثت عن بيروت ما بين التوله والركام

وسمعت أنات تنادي لهفتي تحت الحطام

ورأيتها غضبانة.. نظرت ولم تلق السلام

قالت: أتبحث عن غرام، ويله ضاع الغرام

ضاع الذي قد كان في دنياك حلما لا يضام

ضاع الذي قد كان يسقيك المودة والهيام

بيروت قد سرقت وباعوها لأحلام اللئام

أواه يا بيروت يا أحلى نساء العالمين

يا ليلتي المثلى وتوقي في مساء الحالمين

وروانة تسقي صبابتها ليالي العاشقين

أما سهامك في النوى.. سر الجوى للهائمين

منها تعلمت الهوى.. وفككت طلسمه الدفين

عشقي هنا المخبوء والمفضوح توج باليقين

عودي لنا بيروت.. إنا قد حرقنا بالحنين

وينبغي أن أقول: إن الشاعر يقدر على عاطفة أحسها ثم غلبت عليه، فصدر عنها، على أن من الحق أن يقال: إن هذه العاطفة كانت شركة بين الناس كلهم، فالحادث، لا ريب، جلل، وأن ما يفترق به عبد العزيز خوجه عنا، هو أننا تألمنا مثل ألمه، وحزنا مثل حزنه، ثم قعدت بنا القدرة، فنظم هو شعرا وعجزنا، فصار هو شاعرا بـ«قدرته» التي أوتيها ولم نؤتها، أما العواطف والأحاسيس فمسنا منها مثل ما مسه، ولا شك أن أناسا آخرين فاقوه ألما وحزنا، لكننا لا نعتدهم، لألمهم وحده، شعراء.

سأعود الآن إلى قصيدة خوجه، ولن أغامر، فأقول: إنها نظمت على عجل، وما اختبرها الشاعر في مختبر الشعر، فذلك أمر محفوف بالنية وما تخفيه الصدور، ثم إنني لن ألوذ – وهو الشاعر الوجداني – بمقولات التعبيرية الرومنطيقية، وأخوض في كلام عائم غائم عن عواطف حارة، وشعر يوشك أن يكون فيضا تلقائيا، جثم فيه الحزن على قلب الشاعر، ثم فاض شعرا.. لن ألوذ بذلك، لكنني سأستعين بكلمات إليوت، وأنا، هنا، لا أفترض ولا أقرأ النيات وما تخفي الصدور، وأقول: إن خوجه لم يبطئ الشعر عنه، ولم تعقد الحادثة لسانه، لكن الذي يوحيه إلينا تاريخ نشر قصيدته، أنه بينما تملكته العاطفة وملأت عليه أقطار نفسه إذا به ينظم هذه القصيدة، ثم يدفع بها إلى النشر، ثم تلقفها ملحن، همه أن يعالن الناس بأنغام تنشدها مغنية. كل ذلك تم – النظم واللحن والغناء – في يومين أو ثلاثة، فإذا بالغنا في التقدير حسبناها أربعة أيام.

لن أحكم على القصيدة: أبلغت مرتبة الإحسان والتجويد، أم أنها قعدت دونها، وسأرد الإقبال عليها أو الصدود عنها إلى «الذوق» – هذه الملكة التي لا تستقيد للعيار، مهما تكلفنا ذلك – ولن أحوم حول كلمات، أشهد أنني، منذ ألممت بها، لا أعرف كيف أؤديها أو أعبر عنها، وأشيعهن «الصدق»، فلست أدري كيف أصف عاطفة شاعر ما بـ«الصدق»؛ فأنا لا أعرف الشعر إلا كلمات مسموعة أو مقروءة، وإن كنت لا أستطيع صرف «عاطفتي» تجاه هذه القطعة من الأدب أو تلك، فإذا غلبت العقل رددتها إلى شيء قار في النص، نحسه ولا نصوره، هو ذلك الروح المستكن فيه، والروح من أمر ربي.

لكن الذي أستطيع البيان عنه أن الشاعر عبد العزيز خوجه كأنما أعجله الحادث الجلل عن أن يعاود النظر في قصيدته، ولولا أنها قرنت بـ«نكبة بيروت» لما باينت، في وهمي، وربما في وهم الآخرين، قصائد أخرى قالها الشاعر في بيروت، أو الدار البيضاء، أو هذه المدينة أو تلك من العواصم التي ألم بها، وكأنما اختلط عليه الأمر؛ فحمل نفسه على نظمها، وخيل إليه أنه يؤدي واجبا أخلاقيا تجاه عاصمة عاش فيها زمنا ما، وليس له أن يبطئ، ولأن الوقت أعجله لم يعاود النظر في أثنائها، فغلب عليه معجم الشاعر الوجداني «الغزل»، وأوشكت القصيدة أن تصلح لأي حال من أحوال بيروت، إلا حالها هذا الذي أمات، وأفنى، ودمر، وخرب!

أراد عبد العزيز خوجه أن يصور بيروت المنكوبة، فاستل من معجمها الحاضر كلمتي «الركام» و«الحطام»، لكنه لم يستطع عليهما صبرا، فغابت بيروت المدينة الموجوعة المدمرة المنكوبة، وحضرت بيروت أخرى يعرفها الشاعر وحده، ولا يعرفها أهلوها ولا الآخرون، وبينما كان مظنونا بالقصيدة أن تصور اليباب والخراب والموت والمرض والجوع والتشرد والحسرة، إذا بها تنقلب، سريعا، إلى قصيدة لشاعر مولع بالحسن يتبعه، فغاب الركام وتبدد الحطام، وإذا بيروت مليحة حسناء «تسقيه المودة والهيام»، ثم ها هي ذي تتأبى على شاعرها الغزل، ذاك الذي ليس له من غاية إلا أن «يبحث عن غرام»، وإذا بالشاعر الذي غادر بيروت وخلفها وراءه، لا توحي له نكبتها إلا بـ«التأوه» على «أحلى نساء العالمين»، وإذا بنا نظهر على معجم ناعم حلو رخص، هو، لا ريب، من كيس شاعر غزل أثر، يتحين من عشيقته «ليلة مثلى»، يحمله إليها «توقه» «في مساء الحالمين». فإذا جردنا القصيدة، من الحادث المؤلم، خلصت بتمامها إلى ما يشبه «الميوعة اللفظية»، و«الطرطشة العاطفية» اللتين بح صوت محمد مندور وهو يحذر الشعراء الوجدانيين منهما، ويكفي أن نكمل قصيدة خوجه لنرى أسراب «العاشقين»، و«الهائمين»، و«حرقة الحنين»، وعبارات أخرى توحي إلينا بأننا في حضرة شاعر عينه عين سائح غايته التمتع بجمال حرم منه، فشرع يبكيه. إنه يصف بيروته هو، تلك التي «علمته الهوى» و«فك طلسمه الدفين»! أما بيروت البائسة المتألمة الصابرة؛ بيروت المنكوبين، والوجعين، فسرعان ما توارت؛ فالشاعر «الغزل» لا يفكر إلا في نفسه، وما دلت قصيدته على أنه كان يفكر في غيره.