يُعد التعليم عن بعد من أحد أساليب التعليم المتبعة منذ عقود في كثير من دول العالم المتقدمة والنامية، كوسيلة تعليم داعمة ومكملة لمشروع تنموي يستهدف، نشر التعليم على نطاق واسع لتمكين كل من يرغب الانضمام إلى برامجه أن يلحق به، وبتسهيل أدواته وتوفير ممكناته الأساسية لمختلف المستويات، يكون التعليم في متناول الجميع دون قيود متشددة في متطلباته، كجزء من أهداف منظومة تنموية عالمية تستهدف التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية والبيئية، كرسالة إنسانية وكبرنامج تنموي يحتوي المجتمع الإنساني في شتى بقاع الأرض.

للتعليم عن بعد ظروف تفرضه وأسباب مختلفة تدفع إليه، كوسيلة تعليم مكملة أحياناً، بل وقد تكون أساسية في ظروف مُلحة، يكون فيها هو الخيار الإستراتيجي الأمثل، لتأمين استمرارية عجلة التعليم ولعدم تعطيل مسيرة التنمية المستهدفة، والتي يمثل التعليم فيها الدعامة الرئيسة، وعليه فإن نجاح التعليم عن بعد كخيار إستراتيجي يتوقف على توفير ما يحتاجه من بنية تحتية شاملة ومتطلبات تقنية وقدرات ومهارات يفترض وجودها لدى القائمين على العملية التعليمية، ولدى الشرائح المستهدفة من العملية التعليمية، وإلا فإنه سيكون قاصراً عن تحقيق أهدافه وسيكون سبباً في تزايد حالات الفاقد في التعليم، ووسيلة لتراكم مخرجات محسوبة على التعليم جزافاً.

عند تنفيذ سياسة التعليم عن بعد كخيار للتعليم، لا بد من التمييز بين التعليم العام والتعليم العالي، لاختلاف مستوى وقدرات الشرائح المستهدفة من العملية التعليمية، وللتفاوت الكبير في مستوى البنية التحتية المتاحة لمؤسسات التعليم العام مقارنة بالجامعات، إذ إن التواصل الإلكتروني يكاد يكون متاحا في معظم الجامعات لأسباب مختلفة، كما أن التعليم عن بعد لا زال يُعد من أحد البرامج المستمرة في بعض الجامعات الحكومية، علاوة على الجامعة الإلكترونية وغيرها، بل وإن الكثير من أعضاء هيئة التدريس في الجامعات يعتمدون على أساليب تقنية مختلفة للتواصل مع طلابهم، ولذلك فإن توقع نجاح النتائج لكلا النظامين، مع اختلاف الممكنات والقدرات بين التعليم العام والتعليم العالي؛ يُعد تفاؤلاً وأمنية رغم الكثير من الصعوبات .

تطبيق التعليم عن بعد للتعليم العام كأسلوب وحيد ودائم في كل دول العالم ، لا شك أنه يعد مجازفة بمستقبل الكثير من الموارد البشرية التي يحتويها التعليم العام، والتي لا تمتلك ممكنات تحصيل التعليم عن بعد بأسلوبه المتبع حالياً ، ولذك فإن التعليم المدمج المدروس في ظل احترازات صحية وتنظيم الحضور بأعداد مناسبة للطلاب وتقنين المقررات الرئيسة، كفيل بأن يقلل من حجم الفاقد في التعليم، ويعوض الخسارة العلمية المتوقعة من تنفيذ التعليم عن بعد كخيار أوحد، ويحقق العدالة المطلوبة في التعليم والتقويم لكافة المستهدفين وليس بعضهم.

ولعله من أحد إيجابيات جائحة كورونا على النطاق المؤسسي والمجتمعي؛ هي مراجعة الكثير من مقومات البنية التحتية المادية والبشرية والتقنية لمؤسساتنا جميعها وليس التعليم فقط، إذ أثبتت التجربة أهمية تطوير جميع وسائل الاتصال التقني بين أفراد المجتمع ذاتهم وبينهم وبين المؤسسات جميعها، بعد أن أصبحت تلك الوسائل المتقدمة هي الوسيلة الوحيدة الفاعلة في ظل جائحة كورونا، بل ودفعت الأزمة إلى التفاتنا نحن لذواتنا ومن نتحمل مسؤولياتهم من أفراد، في أهمية تعزيز مستوى قدراتنا التقنية والمعرفية التي أصبحت وسيلة التواصل والتخاطب الرئيسة في ظل الأزمة، وذلك بدوره يتطلب تيسير كافة ممكنات توفيرها بصفة عامة.

وعلى الرغم من أن التعليم الحي التقليدي، لا تقارن فائدته بالتعليم عن بعد في مستوى ما يحدث خلاله من تفاعل وتجاذب ونقاش وحوار يشمل المادة العلمية وما يتعلق بها في البيئة التعليمية، إلا أن ذلك لا يمنع من أن يكون خيار التعليم عن بعد مكملا في بعض مقرراته للتعليم التقليدي، ليس في ظل أزمة كورونا أو غيرها فحسب، وإنما كخيار إستراتيجي مطلوب بهدف الارتقاء بمقدراتنا ذات الصلة بالتعليم عن بعد، وبهدف تعويد الطلاب على ذلك الأسلوب في التعليم كخيار مطلوب في العملية التعليمية، بما يسهم في دفعهم لرفع مهاراتهم وتعزيز قدراتهم التقنية من جهة، ولاختبار مستوى إمكانية وقدرات تفاعل مؤسساتنا التعليمية مع ذلك الأسلوب التعليمي من جهة أخرى، وأن يتم تقييم ذلك بصفة مستمرة كتغذية راجعة، بهدف تحسين منجزاته والرفع من كفاءة عطائه التقني والبشري ليكون في جاهزيته التامة عند الأزمات.

من المؤكد أن المجتمع بمختلف شرائحه لا يرفض التعليم عن بعد، كمفهوم تربوي وكوسيلة تعليمية معاصرة تفرضها الظروف، وإنما يرفض القصور في الإعداد لتنفيذه بما يناسب جميع الشرائح والمستويات التعليمية، والذي ينجم عنه تعذر استفادة البعض من العملية التعليمية برمتها، فيكونوا خارج المنظومة تماماً، وعليه لا بد من توفير العملية التعليمية بكافة فعالياتها عبر وسائل اتصال عامة «التلفزيون» ليتمكن الجميع وليس البعض من الوصول إليها.

التعليم عن بعد أصبح وسيلة حيوية وعملية تربوية نافذة في تطبيق مفهوم التعليم والتدريب على نطاق واسع، فهو لا يقتصر على التعليم النظامي، وإنما هو خيار مطروح وشائع عبر مختلف وسائل التواصل والتقنية المتاحة، للتمكين من تعزيز القدرات والمهارات المطلوبة، علاوة على التدريب الافتراضي على كثير من متطلبات سوق العمل، والتمكين الفردي بمعارف تسهم في التأهيل بمختلف المقومات والمهارات، التي يسعى إليها كل من يريد تحقيق نقلة نوعية في إمكاناته وخياراته.