بإنشاء مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية تكون السعودية قد استكملت هيكلياً أضلاع مربع تشكيل وجود الإنسان بتحققه ضمن منظومة مع مجمع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم، ومجمع الملك سلمان للحديث النبوي الشريف، ومشروع الأمير محمد بن سلمان (نيوم)، حيث التوجه الفكري ونمط الحياة للمستقبل الجديد، وهو التغيير الفريد الذي لم يجرؤ أحد على خوضه من قبل في زمن يحتاج فيه العالم التفكير بطريقة مبتكرة وإيجاد حلول جديدة، على أن تعمل جميعها ضمن هذه المنظومة وليست كجزر منعزلة.

إن وجود الإنسان يعتمد على ثالوث الروح والهوية والحياة بكل تمثلاتها الفكرية والثقافية والسلوكية، وحين نقول الحياة فإنها تنصب بالدرجة الأولى على المستقبل، باعتبار أن ما مضى فات ونحن في أسر الحياة الحاضرة التي نعيشها، والمؤمل الذي نعيش لأجله هو المستقبل الدنيوي والأخروي، فالروح تغذيها الشرائع والأديان عند الشعوب، وهي بالنسبة لنا كمسلمين كلام الله وما صح من حديث رسول الله، والهوية هي اللغة، والحياة هي التوجه الفكري ونمط الحياة في نيوم، وبهذا تكون الرؤية واضحة للسعودية في بعدها العربي باللغة والإسلامي بالقرآن والحديث والإنساني بالمستقبل الجديد.

والسؤال الذي دار بأذهان المهتمين فور إعلان إنشاء مجمع الملك سلمان للغة العربية هو كيف يكون نموذج هذا المجمع؟ وهو سؤال مشروع محفوف بالتوقعات والأمنيات والإشفاقات، وكلها تدور في فلك منفصل عن الملامح الحقيقية للمبادرة التي لم تعلن وزارة الثقافة حتى الآن عن تفاصيلها عدا إشارات يسيرة، وكانت المرجعية الذهنية ثلاثة مجامع هي مجمع اللغة العربية بالقاهرة (مجمع فؤاد الأول) وعمره 88 عاماً ونشأ لثلاثة أغراض: الحفاظ على سلامة اللغة العربية، ووضع معجم تاريخي، وتنظيم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة، وللحق فقد قطع شوطا جباراً في الغرض الأول، ونجح في الثاني بإصداره المعجم الكبير والوسيط والوجيز نجاحاً لا يعادله جهد مماثل ولم يحقق شيئاً في الثالث، وحضرت بعض نقاشاته أيام أستاذنا الدكتور كمال بشر رحمه الله، ومجمع اللغة العربية بدمشق وهو الأقدم إذ تجاوز عمره قرناً من الزمان، واهتم بمهمة إصلاح اللغة وتعريب المصطلحات وتنقيح الكتب وإحياء التراث، وقام بجهود خارقة في هذا المجال، والمجمع العلمي العراقي وعمره 73 عاماً، واهتم بقضايا المصطلح وتعريب العلوم والترجمة كما اهتم باللغتين السريانية والكردية إلى جانب اللغة العربية، وقام بجهود ملحوظة في هذا المجال، وهناك مجامع أخرى قديمة وحديثة واقعية وافتراضية حقيقية وشكلية لكنها تدندن حول هذه المجامع الثلاثة، منها مكتب تنسيق التعريب بالرباط، والمجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر.

إن مجرد التفكير في أن يكون مجمع الملك سلمان على غرار هذه المجامع أو قريبا منها أو حتى تطويرا لها معناه أن نعود إلى الخلف قرناً من الزمان كمن يضع لسيارة فورد أبلكاش محرك رولز رويس ليخوض به سباق فورميولا، كما أرجو ألا ننزلق في الجانب العاطفي فقصيدة حافظ إبراهيم حفظها الجميع كباراً وصغاراً ولم تقدم أو تؤخر في نشر اللغة العربية، بينما قام فيلم كارتون مدبلج لديزني بتيسير تقليد الأطفال لكلمات وجمل فصيحة، كما جاءت فترة شاع فيها استخدام مصطلح اللغة الشاعرة منذ أن ألف العقاد كتابه بهذا الاسم، ودرج الكثير على الانسياق وراء هذا المد العاطفي حتى أن مؤتمرا سنويا شهيراً أطلق مجلساً للغة العربية أسماه بلاط صاحبة الجلالة والمشاركون لم يتجاوزوا حد البلاط، كما أن المجمع عليه أن يتجاوز الأدوار التقليدية المعروفة لمعاهد تعليم العربية للناطقين بغيرها - على الرغم من أهميتها - والترجمة من وإلى اللغات والتأليف والنشر، وكثير من الأنشطة والاتفاقيات والبرامج الاحتفالية التي تستنزف المال والجهد وتقدم بريقاً دعائياً مؤقتاً كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً.

ثم هناك سؤال آخر هو عن أي عربية نتحدث؟ فهناك عربيات كثيرة منها العربية الأعرابية التي ينتهجها بعض القوم يتتبعون فيها حواشي الألفاظ وغريبها كأنما ينحتون في صخر، وهو السبب الذي جعل البعض يطلقون دعابتهم الشهيرة على مجمع اللغة العربية في تعريب الساندويتش بأنهم قالوا: شاطر ومشطور بينهما كامخ، وهناك العربية المعهدية التي يدرسها طلاب المنح في جامعاتنا في معاهد اللغة العربية واعتماد مناهجهم على معاجم الألفاظ الشائعة وفيها ما فيها، ولذلك تجد أن الأعجمي دارس العربية المتخرج في السعودية ينطق عربية تختلف عن خريج مصر ولبنان والجزائر وسورية، ثم في السنوات الأخيرة في معاهد وكليات اللغة العربية في الدول الآسيوية والأوروبية وأمريكا، وهناك أيضاً اللغة المدرسية وهي لغة المستشرقين من الغرب والمستغربين من الشرق، وهناك اللغة الوسطى أو اللغة البيضاء التي أصبحت أكثر العربيات شيوعاً في الوقت الحاضر، وهي لغة محادثة بالدرجة الأولى لا تضبطها قواعد ولا تحيط بها دراسات ذات بال، ويليها في الشيوع في الآونة الأخيرة العربيزي، التي أصبحت لغة رجال الأعمال والإداريين والنخب السياسية والاقتصادية والمبتعثين في مختلف أنحاء العالم العربي وبين الناطقين بالعربية في الدول الأجنبية، وأخيراً هناك اللهجات العربية التي استشعر أهميتها مجمع اللغة العربية بالقاهرة، فوضع ضمن أغراضه عام 1932 أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية، وهو موضوع شائك ومتشعب وفيه الكثير من الركام البحثي والجهود الموفقة والأخطاء المتراكمة والأوهام اللغوية، كما أن هناك مستويات من هذه اللهجات، فهناك لهجات القبائل العدنانية والقحطانية، ولهجات القبائل التي هاجرت من جزيرة العرب واستقرت في الدول المختلفة، وهناك بقايا اللهجات السامية التي ترجع إلى أرومة واحدة مع العربية وتداخلت معها عبر العصور في لغة الحديث اليومي، وهناك لهجات غير عربية تأثرت وأثرت في اللغة العربية، ويعد الاهتمام بها مدخلاً إلى ربط الشعوب العربية بعيداً عن قيادتها ونخبها، بحيث تصبح رابطة ثقافية عميقة ومستدامة لا تتأثر بالعواصف السياسية والتقلبات الاقتصادية وتأثيرات العولمة العابرة للحدود.

ميزة موسوعة ويكيبيديا أنها الأسرع انتشاراً والأسهل وصولا للجميع في محركات البحث مثل قوقل وبنق، وعيبها يكمن في عدم موثوقيتها، والخطورة تأتي من أننا لا نعرف واضع المادة ومرجعيته ومصداقيته، وفي شأن مجمع الملك سلمان العالمي للغة العربية وردت في ويكيبيديا خمسة أهداف للمجمع لا تختلف عن أهداف المجامع التي تأسست منذ قرن وأقل ودخلت في مرحلة الجمود، وتتقاطع بعض الأهداف مع أدوار معاهد وأقسام وكليات للغة العربية في الجامعات ومع مؤسسات أهلية فردية ومجتمعية متناثرة في مختلف الدول، فيها الكثير من الجهود الطيبة والنوايا الصادقة والتفاني بحب اللغة العربية والقليل جداً من التأثير والنادر من قياس الأداء، وبعض الأهداف المذكورة إنشائية لا تختلف صياغتها عن التوصيات المقولبة في نهاية كل اجتماع أو مؤتمر للغة العربية.

نقطة الضوء المشعة وسط ضبابية التوقعات تتمثل في أمرين ذكرهما وزير الثقافة الأمير بدر الفرحان، أولهما العمل على تعزيز الهوية الثقافية العربية، ودعم تطبيقات ومنتجات اللغة العربية في المملكة والعالم، لأنني قرأتهما وفي عيني أضلاع مربع تشكيل وجود الإنسان، من خلال مجمع الملك سلمان للغة العربية، والتفكير الجديد في نيوم بالذكاء الصناعي والتقنية المتقدمة، لتكون العربية هي لغة المستقبل القادم، أما الضلعان الآخران وهما مجمع الملك فهد لطباعة القرآن ومجمع الملك سلمان للحديث النبوي ففيهما حديث يطول.