صادفت بمحض الصدفة تغريدة لأحد المغردين في تويتر، وهو يربط ظاهرة الانبهار بحضارة الغرب بالهزيمة النفسية، ويقصد أن انبهارنا بالغرب، نابع أساسا من شعورنا الداخلي بالهزيمة على حسب تعبيره. وكانت كل الردود المعترضة عليه متفقة على أن منتجات الحضارة الغربية، تحيط بنا إحاطة السوار بالمعصم، ولسان حالهم يقول: أنت أيها المغرد الذي لا تعجبه حضارة الغرب، تركب سيارة من صنع الغرب وتستخدم جهاز الآيفون من صنع الغرب، ولا تستطيع أن تعيش دون تقنية الكهرباء أو تنام دون جهاز التكييف، وكلها من منتجات الغرب، فلماذا أيها المغرد تلومنا وتعاتبنا، عندما ننبهر بحضارة الغرب ونجاحاته وإنجازاته؟ أتفق مع صاحب هذه الحجة المفحمة التي تنطوي على شيء من «الفذلكة»، بأننا نستخدم منتجات الغرب في مختلف مناحي الحياة، وأنها أصبحت جزءا من حياتنا ونمط عيشنا، ولكن هل اعتمادنا الكلي على منتجات الغرب، يعد سببا كافيا لأن أكون منبهرا بنجاحات الغرب وإنجازاته؟.. والسؤال الأهم لماذا ينبهر الفرد أصلا بإنجازات غيره، وما مصدر هذا الانبهار؟ لا شك أن الفرد المنبهر حين يعلن انبهاره على الملأ بمنتج ما، فإنه ينظر لهذا المنتج وكأنه شيء خارق للعادة، شيء يعجز اللسان عن وصفه والعقل عن إدراكه وتحليله. فاختراع مثل هذا المنتج أقرب للمعجزة الخارقة لنواميس الطبيعة، وباعث هذه النظرة مرده لجهله بطريقة عمل هذا الاختراع، يقول ابن تيمية في حديثه عن المعجزات: «وبهذا احتجوا على أنه لا بد أن تكون خارقة للعادة، لكن ليس في هذا ما يدل أن كل خارق آية، فالكهانة والسحر معتادان للسحرة والكهان، وهما خارقان بالنسبة إلى غيرهم، كما أن ما يعرفه أهل الطب والنجوم والفقه والنحو هو معتاد لنظرائهم، وهو خارق بالنسبة إلى غيرهم». فالسبب الرئيس الذي يجعل المنبهر يعدد لك إنجازات الآخر ليقنعك بتخلفك، هو في الحقيقة جهله بطبيعة هذه المنجزات، فالصيني - مثلا - لا ينظر لجهاز الآيفون بنظرة انبهار واندهاش، فهو يعرف حقيقة هذه التقنية، وينافس في صناعة الأجهزة الذكية ويطورها، بل إن جهاز الهواوي الصيني اليوم، يتفوق على جهاز الآيفون من ناحية الجودة والكفاءة. وفي نفس السياق كلنا نذكر ألعاب الخدع السحرية وألعاب الخفة، وكيف كان الساحر يخرج الأرنب من القبعة، وسط حالة عارمة من الاندهاش والانبهار، فقد حيرت هذه الألعاب عقول الناس، وظنوا أنها شكل من السحر والشعوذة، قبل أن يكتشفوا حقيقتها ويدركوا أنها ليست إلا حيلا بسيطة، تعتمد على خفة اليد والخداع البصري، ومثل هذه الألعاب تعتمد على جهل المشاهدين بحقيقتها، حتى لا تفقد أهم عناصرها وهو عنصر الإبهار. الانبهار بمنتجات الحضارة، يرتبط أساسا بجهل حول حقيقتها، وفشل في تفسيرها علميا، والجهل بحقيقة هذه المنتجات يقترن عادة بجهل بتاريخ الحضارات، وكيفية صعودها وازدهارها أو انحدارها وسقوطها، فالحضارات قصص طويلة، معقدة ومتشابكة، تتشكل عبر سلسلة من المخاضات المتتالية، والمجتمعات المتداخلة، فهناك من يحمل قناعات خاطئة أن أي شعب عاش بمعزل عن الآخر، وكل حضارة تفصلها حدود تميزها عن حضارة الآخر، فالحضارة العلمية التي نعيشها اليوم غامضة وغير محددة المعالم ولا يمكن نسبتها لشعب أو ثقافة بعينها، فهي بلا شك مجهولة المنشأ، وما زال كثير من الباحثين الغربيين ينظرون لصعود الحضارة الغربية، على أنه سر من الأسرار، وهناك من يعتقد أن حسن الحظ يقف وراء هيمنتها العلمية على بقية الحضارات. في حقبة ما قبل العلم الحديث، عاشت أهم خمس حضارات وهي: الغرب والهند والصين وبيزنطة والإسلام، في حالة تداخل وتشابك، يصعب من خلاله أن نميز منجزات حضارة ما أو وضع حدود لها، وكل حضارة عاشت وهي تحمل تأثيرات خارجية ملموسة، وغير ملموسة لحضارات أخرى، يقول أستاذ التاريخ في جامعة هارفارد نيال فرغسون: «هل يعقل أن يكون الأوروبيون هم في واقع الأمر أكثر اطلاعا من الشعوب الأخرى؟ ربما كان الأمر كذلك بحلول العام 1759، بدليل أن الابتكارات العلمية لفترة نحو قرنين ونصف القرن من الزمن بعد العام 1650 كانت غربية المنشأ. لكن هل كان الأمر كذلك في العام 1500؟، سنرى لاحقا أن التقنية الصينية والرياضيات الهندية، وعلم الفلك العربي كانت متقدمة قبل قرون من الزمن. أم أن فريقا ثقافيا غامضا، هو الذي أهل الأوروبيين لأن يسبقوا نظراءهم الشرقيين؟». هكذا ينظر كثير من الباحثين الغربيين للحضارة الغربية، بصفتها لغزا من الألغاز، بعكس تلك النظرة التبسيطية، التي يطرحها بعض المثقفين والكتاب العرب، حول الحضارة الغربية، وكأنها نتاج قيم تنوير براقة، أو نظم اجتماعية واقتصادية معلبة، أو إصلاحات دينية جاهزة، يستطيع أي مجتمع استيرادها وتطبيقها لولوج عالم الحداثة. يقول المفكر المغربي محمد عابد الجابري في تساؤلات، تتمحور حول تقدم الغرب في مقابل تخلف الشرق: «تُرى كيف سيكون مصير الحداثة في أوروبا لو وجدت قوة خارجية تضايقها وتقمعها، كما ضايقت أوروبا التوسعية، وقمعت عمليات التطور والتحديث في العالم العربي والإسلامي؟ ثم كيف سيكون مسلسل التصنيع في أوروبا، وبالتالي مسلسل الصراعات الاجتماعية فيها، دون المواد الأولية والسوق الخارجية، التي وفرها له التوسع الاستعماري، الذي شمل القارات الثلاث، وضمنها العالم العربي والإسلامي؟». لا ريب أن نهوض الحضارة الغربية، يعد ظاهرة بارزة في تاريخ العلم الحديث، رسمت كثيرا من ملامح عصرنا الحديث، ولكن أسباب صعودها ما زالت غامضة، وكل قيم التنوير والعلمانية ليست أسبابا كافية، لتفسير هذا الصعود والهيمنة للحضارة الغربية، ولعل أفضل ما نختم به ما قال نيال فرجسون، حول لغز صعود الحضارة الغربية: «إن صعود الغرب هو بكل بساطة، الظاهرة التاريخية الأهم، في النصف الثاني من الألفية الثانية بعد المسيح، إنها القصة التي توجد في قلب التاريخ الحديث. ربما هي اللغز الأكثر إثارة للتحدي الذي يبقى على المؤرخين حله».