اليوم، وقد شارفت فترة رئاسة دونالد ترمب على النهاية، من المهم أن نتناول بعض الملامح التي تدفع هذا الرئيس لرفض قبول الخسارة والاعتراف بأن القطار قد فاته، هذا الموقف الذي أدخل أمريكا اليوم في نفق جديد كانت في غنى عنه خصوصاً بعد أربع سنوات من الصراع المحتدم بينه وبين خصومه الديمقراطيين، موقف ينم عن تغليب مصلحته الشخصية وليس مصلحة حزبه كما قد يردد البعض على حساب مصلحة بلاده والسلم الوطني.

منذ أن تولى ترمب الرئاسة بدأت ملامح إدارته تنكشف، ومنذ ذلك الحين كان لي موقف ناقد لهذا الرئيس في وقت كان الخط العام فيه يتجه نحو تأييده بكل تجلياته الخارجة عن المألوف، فمن قراراته التي تميز تميزاً عرقياً ودينياً ضد العرب والمسلمين إلى تعامله مع أزمة بلاده الأمنية من منطلق الفوقية تجاه المكسيك والدول اللاتينية إلى سلبيته العدائية تجاه أوروبا وحلفاء بلاده الاستراتيجيين واعتبار أزمة المناخ نظرية مؤامرة، كل ذلك وضع ترمب وإدارته ضمن قائمة الأنظمة السياسية التي تعادي من أجل أن تصالح بعد أن تأخذ ما تريد، سياسة الترهيب والمناكفة في عالم الساية فيه تضبطه آليات العمل الدبلوماسي والتعاون الدولي، سياسة ترمبية تتلخص في مقولة أنا وبعدي الطوفان.

أذكر كيف هلل العالم الإسلامي عندما نصب أوباما وكيف كانت الشعوب الإسلامية ترى فيه منصفاً لقضاياها، وهو تهليل لم يستقبل به ترمب في بداية عهده لمواقفه الفوقية تجاه العالم العربي والإسلامي، فإن ذلك تغير لأسباب لا مجال لذكرها هنا فهي معروفة وقد تتضح في سياق ما سأشير له في هذا المقال.

لم يلتفت بعض العرب لكون ترمب أتى وفلسفته الأولى في التعامل مع العالم هي من خلال التفريق بين مكونات التكتلات التي تحمل في ذاته مكامن القوة الذاتية إن كان ذلك في أوروبا أو في العالم الإسلامي، أتى وهو عازم على تقسيم العالم لقسمين أحدهما يتبع مصالح أمريكا وفق رؤيته الداخلية التي تخدمه انتخابياً، وقسم يخاصمه فيستخدم ذخيرة مشيطنة ليجمع خلفه المؤيدين والداعمين الذين يشبهونه ويتفقون مع فلسفته.

عودة للسؤال الذي طرحته في أول المقال، لماذا لا يعترف ترمب بالهزيمة، وربما الإجابة لها أكثر من تفصيل، فترمب من خلال مسيرته الطويلة في عالم الأعمال والعقار سبق أن أفلس أكثر من مرة، وفي كل مرة وجد من ينقذه ويعينه على العودة، تركيزه في كل مرة هو من خلال استخدام اسمه وعلامته التجارية ولغته التسويقية التي استطاع دائماً أن يستغلها أفضل استغلال، فترمب قادر على بيع الماء في حارة السقايين، كما يقول المثل، وهو السبب الذي يجعل ترمب اليوم يؤمن بقدرته على الخروج من أزمته في خسارة الانتخابات من خلال البحث عن منقذ له والاستعانة بكل الحجج والادعاءات والفرضيات التي حتى كتابة هذا المقال لم ينجح فيها على الرغم من عشرات القضايا التي رفعها، والتي خسرها جميعاً دون واحدة فقط.

ترمب لن يعترف ببايدن رئيساً لأن ذلك يعد إقراراً بالهزيمة، وهو بحكم شخصيته النرجسية الرافضة للانكسار سيجعله ذلك غير قادر على الترشح مرة ثانية في ٢٠٢٤ من أجل ما يعتبره استعادة الحق وتحقيق طموحه الشخصي للبلاد في جعل أمريكا عظيمة، وعليه فهذه المسرحية التي يسميها البعض دستورية هي مجرد الوسيلة التي بها يستطيع أن يستمر في مسعاه للفوز مجدداً، فكيف له وهو العظيم الذي وقف خلفه أربعة وسبعون مليوناً أن يخسر، متجاهلاً أن منافسه حصل على سبعة ملايين صوت إضافي.

البعض ما زال يردد ما يدعيه ترمب لأنه يعتقد أن ترمب أفضل لبلاده من بايدن، وهناك من ما زال متمسكاً به لأنه كان مؤيداً له في الماضي، ولا يريد أن يرى نفسه ضمن الخاسرين، وهناك من يعتقد أن مصالح بلاده مربوطة بشخص، وهذا تصور سطحي، فترمب الذي أدار سياسة بلاده في العالم أنتج لنا عالماً مشحوناً بالتوترات العسكرية والخلافات السياسية، عالماً انقسم فيه الخليج، وأصبحت إيران أكثر عدائية والصين أكثر تغولاً، عالم تتبختر فيه روسيا في مناطق النفوذ الأمريكي بأريحية وأوروبا خارج الفضاء الأوروبي لأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

بناء أمريكا عظيمة في الرؤية الترمبية يتحقق من خلال تقسيم العالم لتظهر قوة أمريكا، فكلما زادت الأزمات استطاعت أمريكا أن تبيع السلاح، وكلما تفككت التكتلات برزت قوة أمريكا كدولة كبرى، وكلما كان ترمب قادراً على اتخاذ قراراته دون معارضة فهو قادر على تحقيق ذلك الواقع، لذلك لن يعترف بالخسارة، بل سيعود في 2024 ليكمل مسعاه في تغيير شكل العالم ليحقق بذلك أمريكته المنعزلة العظيمة.