إن أهمية معرفة ماهية البحوث والدراسات المقدمة في الجهات الأكاديمية لها قواعد وضوابط ومبادئ يتوجب على تلك الجهات الأكاديمية أن تضطلع بها وتعمل بها وتطورها بين الفينة والأخرى، ولا أعنى بتلك الضوابط والقواعد والمبادئ التي تهتم بالشكل والحرف والنحو والصرف، فهذه مع أهميتها إلا أنها تبقى ليست مؤثرةً تأثيرًا حقيقيًا في الجهد الذهني والبحث المضني الذي يقضيه الطالب الأكاديمي، الذي سوف يبرز للمجتمع على أنه إما أن يكون مثقفًا أو مدربًا للأجيال أو محاضرًا في الجهات الأكاديمية أو أنه سوف يبذل جهده في الجهات الحكومية التي هي بحاجة لأبنائها كي يبدعوا ويطورا المجالات التي يلتحقون بها من خلال دراساتهم التي قدموها إلى جهاتهم الأكاديمية وقد نالوا بها شهاداتهم العليا.

وإنما أعني بتلك الضوابط والقواعد والمبادئ المؤثرة تأثيرًا حقيقيًا في البحوث الأكاديمية ما يندرج من ضمن قواعد الإبداع وخلق بحوث تدرس الوقائع والظروف وتقدم معلومات جديدة تكون ذات بعد وعمق تأريخي، وكذلك أعني بالضوابط والمبادئ تلك التي تُساعد على فهم وتفسير الوقائع والظروف المحيطة بأي دراسة أو حدث تأريخي أو زمني، ولا شك أن البحث الأكاديمي أو العلمي غير الأكاديمي سواءً كان في العلوم النظرية أو الدراسات المادية الأخرى يتطلب مخزونًا ثقافيًا ونهمًا معرفيًا متواصلاً لا ينقطع حتى يصل الإنسان إلى مرحلة اليقين والتي هي الموت.

وذلك لأن الانقطاع عن فكرة التواصل المعرفي بالبحث والمعرفة والارتباط بما يستجد من إصدارات في شتى العلوم والمعارف وفي كل المجالات يجعل مُدعي المعرفة ومقتحم البحث الأكاديمي عقبة كؤود في استمرارية الإبداع والتطوير والتنمية العائدة على المجتمعات والدول، كما أن الانقطاع عن المعرفة يُمثل تلك الإشكالية آنفة الذكر.

فإن الاقتصار على قشور المعرفة وحشد النصوص وحشرها في الأوراق كي تتضخم الدراسات والبحوث هو عبث معرفي وإهدار للمؤسسات التعليمية، وإيقاف للتطور والإبداع في الجهات الأكاديمية، فلا توجد فائدة من دراسة موضوع تأريخي يتحدث عن الصراع العقدي في الأندلس مثلاً خلال ثمانية قرون ثم تكون الدراسة متكونة من أكثر من ستمائة صفحة، وتكون الدراسة في ثلثين من عدد صفحاتها أي ما يُشكل أربعمائة وثلاثين صفحة تتحدث عن أمور مجملة وعامة عن اعتقادات النصارى، وما ينقضها من النصوص الشرعية لدى المسلمين، ثم في الجزء الأقل تتحدث الدراسة عن المناظرات التي وقعت بين بعض علماء المالكية وبين بعض علماء النصارى، فهذا مثال صارخ على العبث المعرفي.

إن أي قارئ نهم للتاريخ والمعرفة عندما يجد كتابًا بهذا العنوان فإن نفسه تتوق لقراءة ما يمكن أن تتحدث عنه الدراسة عن حقيقية الصراع العقدي كمقدمة ومفاهيم تلك الصراعات العقدية، ثم يمكن أن تتحدث الدراسة عن معرفة ماهية هذا الصراع العقدي الذي تتحدث عنه الدراسة، وما هي أشكاله، وما هو تاريخ وقوعه، ومتى بدء هذا الصراع العقدي الذي تريد الدراسة أن تبرزه للعلن وللعامة، وهل كان هناك هذا الصراع العقدي حقيقيًا وموجودًا بالفعل أم أنها كانت دعاوى تتردد ولم يقم عليها أي أدلة تاريخية، بل كانت تلك الدعاوى مسايرةً لما ورد في كتب المؤرخين من غير تمحيص ولا تحقيق، وذلك أن كتب التأريخ تنقسم إلى أقسام كثيرة وتحتاج إلى معرفة دقيقة بعلوم شتى، فمنها ما يسرد الوقائع سردًا قصصيًا دون أسانيد لتلك المرويات التي سردها، وهذا مثاله تاريخ بأن الأثير «الكامل».

ومن كتب التاريخ ما يسرد التاريخ وما وقع فيه بأسانيد، وهذا مثاله تاريخ الطبري، وهذه الأسانيد تحتاج إلى دراسة وتحقيق وتمحيص كي يتميز الصحيح منها ويُعرف الضعيف منها، ويُترك الشاذ والمنكر، ومنها أي كتب التاريخ ما يجمع بين الأمرين يسرد القصص والحوادث التاريخية تارة بأسانيدها وتارة دون أسانيد معتمدًا على كتب تاريخية أخرى، وهذا يتمثل في كتاب البداية والنهاية لابن كثير، وهذه الدقائق التاريخية المستفادة من كتب التاريخ تجعل القارئ والناقد يطرح تساؤلات في الجدوى المعرفية من جعل مثل هذه المواضيع الشائكة هي محط أنظار الجهات الأكاديمية، وذلك بأن تجعلها بحثًا يقوم به طالب يبحث عن درجة علمية أكاديمية سواءً كانت درجة الدكتوراه أم الماجستير!

إن مثل بحث هذه المواضيع الشائكة، وخصوصًا في الصراعات العقائدية من قبل شخص واحد، ويتضح من توجهات البحث أنه يسير في خطى الثمانينيات، وهو عصر ما يُسمى بالصحوة الإسلامية في مشابهة لإبراز الصراعات العقائدية وجعلها واضحة ومُـبَـيِّنَـة «في رأي علماء أصول الفقه»، وذلك لأن ذلك العصر كان مشتهرًا بأن رموزه كانوا يُذكون نيران تلك الصراعات العقائدية مع النصارى ومع اليهود ومع كل الديانات دون أدنى أي اعتبارات للأمن والاستقرار الوطني للدولة التي يعيشون في محيطها، وذلك لما كانوا يتخيلون أنهم سوف يحققونه من الدعوة الأممية لتلك الصحوة المشؤومة على الأجيال والأوطان.

وفي ظني أن مثل هذه المواضيع والبحوث والمسائل الشائكة يتوجب على الجهات المسؤولة المراقبة لما يجري في التعليم العالي أن تُغربل البحوث والدراسات التي تُقررها الكليات عند قبول الدراسات والبحوث في مرحلتي الدكتوراه والماجستير، وذلك لأن عصر الإصلاح والتنمية والتطور التي تمر به دولتنا المباركة لا ينبغي أن تتم إعاقته من خلال الدراسات والبحوث الأكاديمية التي تُقرر ما ينقض ويُعطل مرادات الإصلاح والتنمية والتطور، وأقترح أن يتم إنشاء جهة مستقلة عن الجهات الأكاديمية تضم مختصين ومؤهلين للنظر في ما هية البحوث والمواضيع المطروحة لمنح شهادتي الدكتوراه والماجستير.