توَّجت الجمعية العامة للأمم المتحدة المساعي الحثيثة المتواصلة التي قادتها المملكة العربية السعودية وعدد من الدول العربية على رأسها الإمارات ومصر والبحرين بالموافقة على إعلان الرابع من فبراير من كل عام يوماً عالمياً للأخوة الإنسانية، ضمن المساعي الرامية إلى محاربة التشدد والإقصاء، والتصدي لخطاب الكراهية الذي لم ينتج عنه سوى الإرهاب والدمار، وفي المقابل تعزيز قيم التسامح والمحبة، وتشجيع التعايش المشترك، لأن الكوكب الذي نعيش على سطحه يكفينا جميعاً، وبإمكاننا العيش فيه بسلام، إذا احترم كل منا حق الآخر في التفكير واعتناق ما يراه من أفكار ومبادئ وقيم، ما دام يمارس ذلك بصورة سلمية دون إكراه للآخرين أو إرغام.

وقد عانى العالم طوال الفترة الماضية من تفشي مشاعر الكراهية وتزايد تيارات الإرهاب والعنف، التي لا ترى سوى بعين واحدة، ولا تعترف للآخر بحقه في إعمال العقل واتباع ما يتناسب مع قناعاته من أفكار وأديان ومبادئ، وتسعى لإكراه الآخرين على تبني ما تراه بزعم أنه الحقيقة المطلقة، مواصلة لمسيرة الطاغية فرعون التي نقلها القرآن الكريم بقوله (لا أريكم إلا ما أرى). وللأسف لم ينتج عن تلك السياسة العمياء سوى تعاظم المشكلات وزيادة التوتر وظهور حالة من عدم الاستقرار التي عانى منها العالم أجمع.

ومع أن الأديان السماوية الثلاثة، الإسلام والمسيحية واليهودية، لم تأمر أتباعها بإكراه الآخرين على الدخول فيها، وأقرت حق الآخرين في الاختلاف، إلا أن كثيراً من المتعصبين لم يتبعوا ذلك الهدي النبيل، واجتهدوا كثيراً في تحريف الآيات عن معانيها الحقيقية وانتزاعها من سياقها الذي وردت فيه، وتحويلها عن مسارها الطبيعي، سوءاً للفهم ورغبة في فرض الرأي الواحد، مع أن الطبيعة البشرية تقتضي الاختلاف والتمايز، ليس بين أتباع الأديان المختلفة، بل بين أتباع الدين الواحد، كنتيجة طبيعية لاختلاف التفكير وتعدد الرؤى. كذلك فإن المجتمعات الإنسانية ذات المشارب المتعددة والمذاهب المختلفة تمتاز بالتنوع وثراء الثقافة وعمق المعرفة.

خلال العقود الماضية ابتُلي العالم بظهور آفة الإرهاب بأشكال عديدة ومسميات مختلفة، وعانت الإنسانية من أهوال يشيب لها الولدان، وشهدت العديد من دول العالم أحداثاً إرهابية مدمرة راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء، نساء وأطفالاً وشيوخاً. وعلى الرغم من أن هذه الآفة لا ترتبط بدين معين أو جماعة بعينها فإن تيارات متطرفة في الغرب سارعت إلى إلصاق تهمة الإرهاب بالمسلمين، ما أسهم في ظهور آفة الإسلاموفوبيا التي تغذيها جماعات اليمين المتطرف التي تؤمن بخرافة تفوق العرق الأبيض على ما سواه، وهو ما أوجد حالة أخرى من الإرهاب المضاد لا تقل سوءاً عن سابقتها.

لم تنقطع محاولات المخلصين لإنقاذ العالم من هذا المنحدر السحيق، وكان للمملكة دور كبير عبر تشجيع الحوار ورفض التطرف ومواجهة الإرهاب، وأسست في هذا الصدد مركز الملك عبد الله للحوار بين أتباع الأديان تحت مظلة الأمم المتحدة، ليكون واحة تجمع أتباع الوسطية وأنصار التفاهم. وقامت المملكة بتوفير التمويل اللازم لأعمال المركز من اجتماعات ومؤتمرات وجلسات حوار، مما ساعده على القيام المركز بدور كبير في تفنيد دعاوى الصدام والتصدي لدعاة الفتنة.

الآن تواصل المملكة مع شقيقاتها الإمارات ومصر والبحرين السير في ذات الاتجاه السليم، والسعي الدؤوب لجمع شمل البشرية، عبر تعزيز القواسم المشتركة، والتشجيع على تجاوز نقاط الخلاف والتركيز على مواطن الاتفاق، وحتمية الإقرار بحرية الناس كافة، وتحقيق التقارب بين الثقافات، والترويج لثقافة السلام ونبذ العنف والكراهية، وإيماناً بالمساهمات القيمة التي يقدمها الحوار بين مختلف الثقافات والأديان في زيادة الوعي بالقيم المشتركة بين جميع البشر، وتهيئة بيئة مواتية لتحقيق السلام، والتفاهم بين الجميع.

وبدا ظاهراً للعيان التقدير الكبير الذي قابل به العالم أجمع هذه المبادرة الفريدة من الدول العربية الأربع في إجازتها بالإجماع من كافة دول المنظمة الدولية، لأن المبادرة أتت في هذه الفترة الدقيقة من تاريخ العالم، والتي تشهد تحديات جسيمة، مما يتطلب مبادرات رائدة، وجهداً صادقاً وفاعلاً لكبح جماح التطرف بجميع أشكاله، والتصدي لدعاة خطاب الكراهية والتحريض والهدم، استلهاماً لصحيح القيم الدينية النبيلة، التي تحث على العمل من أجل السلام والبناء، واحترام كرامة الإنسان.

وحتى تنجح المبادرة في تحقيق الأهداف التي تصبو إليها فإن المطلوب اتخاذ خطوات عملية لغرس المفاهيم الراقية التي تنادي بها في نفوس الشباب والأطفال، عبر تضمينها في المناهج الدراسية في مختلف دول العالم، لتنشأ أجيال جديدة مشبعة بقيم التسامح والتراحم والتعايش. كما أن هناك واجباً أخلاقياً على وسائل الإعلام والمؤسسات الثقافية والأدبية والفكرية لبث ثقافة العيش المشترك وسط متابعيها، وجعلها جزءاً أصيلاً من ثقافة المجتمع.

وعلى علماء الأديان المختلفة يقع الواجب الأكبر لتحذير أتباعها من مغبة الكراهية والتنطع، وبيان أن الأديان السماوية نادت بقبول الآخر في العيش الإنساني، وتجمعها مشتركات عديدة، وأن الدين لم يكن في يوم عامل فرقة، بل هو رحمة للناس وإنقاذاً لها من الهلاك والتشرذم.

ما أحوجنا اليوم إلى عالمٍ خالٍ من الصراعات والحروب، تعيش فيه البشرية في سلام ووئام، ويحتفظ فيه الجميع بقناعاتهم الفكرية ومعتقداتهم الدينية ومرجعياتهم الإثنية وكافة خصائصهم التي تميزهم عمن سواهم، والابتعاد عن مشاعر البغض والكراهية. وهذا لا يتأتى إلا بالمزيد من العمل الجاد لنشر قيم الأخوة وإعلاء للقيم الإنسانية الرفيعة. وتخليص العالم من الذين أدمنوا بث الفرقة والشتات، ولا يمكنهم العيش إلا في الماء العكر، من الذين جعلوا أكبر همهم بث الخلافات الدينية والطائفية وعششت في أذهانهم خرافات تجاوزها العالم المتحضر وأفكار بالية ليس لها وجود في عالم اليوم.