لم تكد الولايات المتحدة تتخذ الإجراء الصحيح، الذي كان عليها اتخاذه منذ سنوات عديدة، بتصنيف الحوثيين جماعة إرهابية محظورة، وتفرض عقوبات على زعيمها واثنين من أبرز مساعديه، حتى عادت الأمم المتحدة إلى لعب الدور المتخاذل الذي ظلت تلعبه خلال السنوات الماضية، وتتشبث بحالة الفشل التي لازمتها ومبعوثيها الثلاثة إلى اليمن: جمال بنعمر وإسماعيل ولد الشيخ أحمد ومارتن جريفيث، حيث دعت إلى التراجع عن القرار بزعم أنه يهدد وصول مواد الإغاثة والمساعدات الإنسانية لليمن، وهو ما يؤكد أن المنظمة الدولية، التي أدمنت اللعب على أوراق المساومات السياسية وتغليب الأجندة البعيدة كل البعد عن مهمتها الأساسية، لا ترغب في وضع حد للأزمة الإنسانية الطاحنة التي يعيشها اليمن الشقيق.

بدءا، فإن السؤال الأبرز الذي يطرح نفسه هو عن ماهية المساعدات التي ترغب الأمم المتحدة في إيصالها لليمن، فالعالم أجمع يدرك أن المساعدات الإنسانية تدخل اليمن من مصدرين لا ثالث لهما: الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، وقد سبق للمنظمة الدولية نفسها الإقرار مرات عديدة بأن مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية هو الداعم الأكبر، وفي المقابل تحولت الأمم المتحدة إلى مجرد جهة إشرافية تراقب توزيع الإغاثة، لا أكثر ولا أقل، حتى مهمة التوزيع يقوم بها المركز نفسه عبر وكلائه المنتشرين في كل أنحاء اليمن، دون اعتبار لأي عوامل سياسية أو مناطقية، وهو ما شهدت به المنظمة الدولية.

السؤال الآخر الأكثر أهمية هو هل تحظى الأمم المتحدة بأي احترام من جانب الجماعة الإرهابية حتى تسعى لتجنيبها تداعيات القرار الأمريكي؟ وهل يستطيع «جريفيث» أن يتحرك في اليمن هو أو أي من موظفيه دون أخذ إذن وموافقة مسبقة من الانقلابيين؟ ولماذا يتمسك بالتعامل مع تلك الميليشيات الإرهابية التي سبق أن أطلقت النار على موكبه باعتبارها «سلطة أمر واقع»، بدلا من تصنيفها الطبيعي جماعة خارجة عن القانون استولت على السلطة بطريقة غير شرعية؟

الأكثر إثارة للعجب والاستغراب هو إصرار الأمم المتحدة على عدم احترام القرار رقم 2216، الصادر عن مجلس الأمن الدولي بإجماع أعضائه، الذي وضع زعيم الجماعة المتمردة في قائمة الإرهابيين، وفرض عليه عقوبات دولية، فإذا كانت المنظمة الدولية تضرب بقراراتها عرض الحائط وتتجاهلها فما هو السبب في إصدارها أصلا؟

وكم كان مثيرا للأسف والأسى المبررات التي ساقها المبعوث الدولي لليمن، مارتن جريفيث، عندما زعم أن تصنيف الحوثيين جماعة إرهابية يعوق مساعيه الرامية إلى جمع طرفي الأزمة على طاولة المحادثات، وهنا يحق لنا التساؤل عما أنجزه «جريفيث» منذ تسلمه مهمته باليمن في فبراير 2018، وهل استطاع تحقيق أي تقدم خلال السنوات الثلاث الماضية؟ وهل يبقى له أن جمع الطرفين في أي حوار؟ حتى «اتفاق ستوكهولم» الخاص بمدينة الحديدة، هل استطاع إرغام الحوثيين على احترامه وتنفيذه؟

الإجابة الواضحة، التي لا تحتاج إلى عناء كبير، هي أن الأمم المتحدة ومبعوثها لم تحقق أي تقدم ولن تستطيع تقديم أي شيء، لخلل رئيسي في آلية عملها، وتمسكها بالتعامل مع ميليشيا الحوثيين على أنها «سلطة أمر واقع»، بالإضافة إلى أن الجماعة التي يلهث «جريفيث» طلبا لرضاها لا تملك أمرها، حيث إنها ليست سوى وكيل للنظام الإيراني، ينفذ أجندته وينتظر تعليماته، ولا يستطيع التصرف دون أن تصدر إليه التعليمات من سادته في طهران.

ونظرة سريعة إلى موضوع المساعدات الإنسانية تظهر بوضوح أن الانقلابيين لم يسمحوا طيلة الأزمة بدخول أي مساعدات للمدنيين عبر ميناء «الحديدة» الذي يسيطرون عليه، حتى المساعدات التي وصلت من بعض الجهات المانحة سارعوا إلى مصادرتها وتوزيعها على أتباعهم، وبيع الفائض منها في الأسواق، حتى المواد الطبية التي حاولت بعض الجهات الخيرية إيصالها إلى المدنيين الذين يحتاجون إليها في «تعز» صادرتها الميليشيات ومنعت وصولها، بل إن عناصرها أقدموا على إفراغ أنابيب الأكسجين في الهواء، ورفضوا إدخالها للمرضى المحتاجين إليها في مستشفيات المدينة المحاصرة، في تصرف لا يمت بأي صلة للإنسانية.

الآن يتوجب على المنظمة الدولية، إن أرادت لمبعوثها النجاح في مهمته، تغيير طريقة تعاملها مع المتمردين، وإدراك أن الجماعة غير معنية بالحفاظ على مصالح المدنيين، وتجنيبهم شرور المجاعة والأزمات أو العمل على ما فيه مصلحتهم، لأن مثل هذه المصطلحات الإنسانية الراقية لا توجد في قاموسها، فهي لا تستند إلى أي رصيد سياسي أو إنساني أو أخلاقي، ولا تعدو أن تكون جماعة إرهابية مارقة، لا يجدي التساهل أو التعامل معها باللين.

كذلك فإن على «جريفيث» التقيد بمتطلبات وظيفته كوسيط ينبغي أن يكون على مسافة واحدة من الطرفين، وألا يبذل جهده وطاقته لاسترضاء المتمردين، بل إن دوره الرئيس يتمثل في تنوير العالم أجمع بجهوده لإحلال السلام، وتحديد الطرف المسؤول عن تفاقم الأزمة الإنسانية وعرقلة محاولات التوصل إلى حل سياسي للأزمة. أما محاولة البحث عن مجد شخصي أو تحقيق نصر معنوي، فهذا لن يفيد شيئا، ولن يؤدي سوى لإطالة أمد المعاناة.

لا نطالبه بأن يفرض عقوبات على المتمردين أو أن يسوقهم للمحاكم الدولية، فهذا ليس من متطلبات وظيفته، لكن مهمته تكمن في تحديد المسؤوليات، وتمليك الحقائق لأعضاء مجلس الأمن الدولي الذين منحوه سلطاته، ووضعوه في هذا المنصب، وأن يقوم بكل وضوح بطلب ممارسة ضغوط مشددة على الطرف المتسبب في المشكلة، وحينها سيكون قد أدى ما عليه، وقام بالدور المطلوب منه على الوجه الأكمل. أما محاولات التسويف وإمساك العصا من المنتصف وتحقيق أجندة سياسية على حساب المدنيين، فهي خطأ كبير لن تغفره أجيال اليمن ولن تنساه ذاكرة التاريخ.