بإنجازات متلاحقة في المجال الحقوقي، وثورة تشريعية متكاملة هدفت لتطوير المنظومة القضائية، وتطلعات لا تحدها حدود، تشارك المملكة هذه الأيام في الدورة 46 لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة التي انطلقت، الإثنين الماضي، ألقى خلالها رئيس الوفد السعودي الدكتور عواد بن صالح العواد كلمة المملكة في الجزء رفيع المستوى، موضحا التطورات التي شهدتها منظومة حقوق الإنسان في المملكة، والتعديلات العديدة في التشريعات والقوانين الجديدة التي تم إقرارها.

ونظرة سريعة للقضايا العديدة التي سوف تتناولها الدورة الحالية للمجلس نجد أنها تشمل الحق في الصحة في حالات الطوارئ والأوبئة، والحق في الحصول العادل للقاحات، وحقوق الطفل، ومكافحة التمييز العنصري، والحق في الحصول على الغذاء، والحق في البيئة السليمة، والحق في السكن اللائق، وتعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

والمملكة وفي ظل التزامها الكامل بتعهداتها وعلى الرغم من أنها لا تتمتع بعضوية المجلس في هذه الدورة، فقد قامت بتقديم كافة تقاريرها التعاهدية وتقاريرها الخاصة بآلية الاستعراض الدوري الشامل التابعة لمجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أوقاتها المقررة، وهذا يعكس جديتها واهتمامها وتعاونها مع آليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، كما اتخذت عددا من التدابير من تضمين حقوق الإنسان في المقررات الدراسية، لترسيخ ثقافة حقوق الإنسان وجعلها جزءا من ثقافة المجتمع. كما تأخذ القيادة السعودية على محمل الجد تعزيز تلك الحقوق، مهما كانت الظروف والملابسات، لتتجاوز قضية صيانة حقوق الإنسان بمفهومها الشامل الواسع ولتعزيزها مرحلة الشعارات، ولتصبح واقعا على الأرض تعززه الأحداث وتؤكده الشواهد.

ومما يلفت النظر أن المملكة حققت خلال الفترة الماضية إنجازات كبيرة وتطورا ملحوظا في هذه القضايا، ففيما يتعلق بالحق في الصحة في حالات الطوارئ والأوبئة نجد أنها سطرت فصولا رائعة في دفتر الإنسانية وقدمت نموذجا للتعامل الرحيم خلال أزمة كورونا الحالية، وتفوقت على كثير من دول العالم التي تتشدق بحقوق الإنسان، فقد امتازت طريقة تعاملها خلال الأزمة بتطابقها مع المعايير الدولية المرعية في هذا الشأن، والتناسق مع حقوق الإنسان ومنع انتهاكها مهما كانت الذرائع والأسباب.

أولى الخطوات التي اتخذتها المملكة تمثلت في مصارحة المواطنين والمقيمين بالوضع، وكشف حقيقة الموقف بشفافية تامة، إعمالا لحق الإنسان في الحصول على المعلومة الكاملة. ومن ثم قامت السلطات الصحية بتخصيص العديد من المراكز لإجراء الفحوصات والاختبارات الضرورية مجانا لجميع فئات المجتمع من مواطنين ومقيمين، حتى منتهكي قوانين الإقامة النظامية تم توفير فرصة العلاج لهم، إعمالا لمبدأ تكريم الإنسان، وتوفير العلاج المجاني لكل من يثبت إصابتهم بالمرض في كافة المؤسسات الطبية.

حتى خلال فرض الإجراءات الاحترازية لم تلجأ السلطات السعودية لما اتخذته بعض الدول المتقدمة من نشر للجيوش في الشوارع، ولم تركز على معاقبة الناس، بل اختارت أسلوبا أكثر رقيا ورحمة، وهي تلجأ للتوعية دون الإكراه، وتعمل على تقليل المخاطر، وتراهن على وعي شعبها وتحضره.

أما فيما يتعلق بالحق في الحصول العادل على اللقاحات، فالاهتمام السعودي بالمرض لم يقتصر على مواطنيها فقط؛ بل شمل الجميع، وتم فتح جميع المراكز لتقديم اللقاحات، دون اهتمام بجنسية الإنسان أو مهنته أو دينه أو وضعه القانوني، بل إن المملكة من خلال رئاستها الدورة الماضية لمجموعة العشرين سارعت إلى تأكيد هذا المبدأ الأصيل، وطالبت دول المجموعة بتقديم المساعدات المطلوبة للدول الأقل نموا والفئات الأكثر احتياجا، وقدمت تبرعات بمبالغ كبيرة لمراكز الأبحاث العالمية لسرعة التوصل إلى لقاح يحمي الإنسانية من خطر المرض.

وبخصوص حقوق الطفل فقد شملت التعديلات التي شهدتها المنظومة التشريعية خلال الفترة الماضية منع الحكم بإصدار أحكام بالإعدام على كل من تقل سنه عن الثامنة عشرة وقت وقوع الجريمة، وعدم الحكم بأي عقوبات بدنية على الأطفال، وهذا التعديل يتناغم مع المواثيق والعهود الدولية التي تعنى بحفظ حقوق الطفل كما أنه في نفس الوقت مستمد من تعاليم الشريعة الإسلامية.

وعن محاربة العنصرية نجد أن النظام الرئيسي للدولة نص على تجريم كافة أشكال التمييز بين المواطنين على أسس عرقية أو قبلية أو مناطقية أو مذهبية، فالجميع سواسية أمام القانون، ولا معيار للتفاضل إلا بمقدار المواطنة الصالحة والتقيد بنصوص القانون. وتبدي المملكة تشددا كبيرا مع كل من يخالف ذلك وتنص قوانينها على إيقاع أشد العقوبات بحقه. كذلك حققت المملكة تقدما كبيرا في بقية الأجندة التي تشمل الحق في الحصول على الغذاء، والتمتع بالبيئة السليمة، وامتلاك السكن اللائق، وتعزيز حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

وقد تسارعت دورة الاهتمام بقضايا حقوق الإنسان خلال السنوات الماضية وتضاعف منذ إقرار رؤية المملكة 2030 التي أحدثت تغييرا كبيرا في بنية المجتمع، ونادت في أكثر من موضع بضرورة تحقيق المواءمة بين المنظومة التشريعية وما يتطلبه التفاعل الإيجابي مع منظمات المجتمع الدولي، وهو ما تجلى في إصدار 60 قراراً إصلاحياً تتناول حقوق الإنسان، وهو ما يؤكد الجدية التي تتعامل بها الرياض مع هذا الملف، ولا أدل على ذلك من أنها أصبحت بين 36 دولة أكملت الإيفاء بتعهداتها من جملة 197 دولة في العالم.

ولم تتأت هذه المكانة المتقدمة للمملكة إلا بعد عمل دؤوب وجهود مضنية شاركت فيها كل الجهات ذات الصلة، ومتابعة مستمرة من القيادة السياسية، مما أدى لإنجاز ثورة تشريعية كاملة، لم تترك جانبا من جوانب حقوق الإنسان إلا وأوفته. وهذه الإنجازات والمساعي الحثيثة تتم وفق رؤية متكاملة تعنى بخصائص المجتمع وعاداته، وتراعي احترام الكرامة الإنسانية، والإيمان بقيم المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية، سعيا لإكمال إيفاء المملكة بالتزاماتها الدولية وتعهداتها الطوعية التي قطعتها على نفسها عند ترشحها لمجلس حقوق الإنسان التي شغلت عضويته لأربع دورات منذ تأسيسه في عام 2006، وسوف تعود إلى اكتسابها- بمشيئة الله- في الدورة المقبلة من عمر المجلس، عنوة واقتدارا واستحقاقا. وهذا يتطلب استمرار مضاعفة الجهود من جميع القطاعات الحكومية ذات العلاقة ومشاركة فاعلة من المجتمع المدني.