باهتمام بالغ، شرعت الأمم المتحدة في تنفيذ مبادرة الرياض لإنشاء شبكة دولية لمكافحة الفساد حول العالم، والتي تقدمت بها المملكة خلال رئاستها للدورة الماضية من مجموعة العشرين، في جهد أصيل يهدف لمواجهة آفة الفساد التي باتت تهدد العالم برمته، وتمثل أكبر عائق للنمو الاقتصادي، فلا معنى لأي خطط تنموية لإحداث تطور أو ازدهار، ما دام هناك من يسرق ثمار ذلك التخطيط ويستحل لنفسه الاستئثار بأموال الدولة لمصلحته الشخصية، واستغلال وظيفته وموقعه لتحقيق مكاسبه الذاتية، وما لم تكن هناك عدالة اجتماعية فإن كل الجهود التي تبذل سوف تكون هباءً منثورًا وينعدم أثرها على أرض الواقع.

ويعود الاهتمام السعودي بمحاربة الفساد نظرا للآثار المدمرة التي تنعكس عليه، وتكفي الإشارة إلى أن تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أنه يكلف الاقتصاد العالمي ما يتجاوز 3.6 تريليونات دولار سنويًا، إضافة إلى الأضرار التي يلحقها بالتنمية والازدهار وجودة الخدمات والمشاريع، فهو يؤثر في جميع الدول سواء من ناحية استقرارها أو نزاهة أنظمتها المالية، لذلك يؤكد كثير من المختصين أنه الوجه الآخر لآفة الإرهاب، وأن هناك ارتباطًا وثيقًا بين الاثنين لأن معظم الأموال التي تمول بها التنظيمات المتطرفة عملياتها الإجرامية ناتجة في الأساس عن عمليات غير مشروعة.

ولأن الفساد من العمليات العابرة للحدود، بسبب أن معظم من يختلسون أموال دولهم ويسرقون عرق شعوبهم يعمدون إلى تهريبها خارج بلدانهم الأصلية، هربًا من المساءلة والحساب، كان لا بد من إيجاد مظلة دولية تتولى تنسيق الجهود، وتعزيز التعاون وتبادل المعلومات بين أجهزة مكافحة الفساد حول العالم، وتعزيز قدرة جميع الدول على ملاحقة الفاسدين، واستحداث آليات كفيلة بمنع وجود ملاذات آمنة للمفسدين، واسترداد الأموال العامة المسروقة إلى بلدانها، مع الاهتمام بضرورة مواءمة كل تلك الجهود باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي وقعت عليها 185 دولة حول العالم، مع ضرورة مراعاة حقوق الإنسان في كل إجراءات المتابعة والتحقيق.

وإسهامًا من المملكة التي أعلنت خلال السنوات الماضية حربا شعواء على أوكار الفساد، فقد تقدمت في ختام أعمال دورة مجموعة العشرين في أكتوبر من العام الماضي بمبادرة فريدة لتوحيد جهود كل الدول في تعقب المفسدين ومطاردتهم، وهي المبادرة التي وجدت إشادة بالغة من دول المجموعة والمنظمات الدولية العاملة في هذا المجال، للتصدي لتلك المشكلة التي باتت تؤرق صنَّاع القرار.

ومن اللافت أن السعودية التي كانت سباقة في توحيد الجهود للتصدي للتنظيمات الإرهابية عبر تأسيسها لمركز اعتدال الذي يتولى تفنيد شبهات الإرهابيين وتنسيق عمل الجهات ذات الصلة وتمرير المعلومات وتقاسم الأدوار، قامت أيضا بجهود مشابهة لاستئصال آفة الفساد، وهو ما يؤكد الارتباط الوثيق الذي تتعامل به السلطات السعودية مع الجريمتين لأنهما وجهان لعملة واحدة.

ونظرًا لتشابك النظام المصرفي العالمي، وتطور أساليب الجريمة وتشعب مسالكها فقد برزت الحاجة الماسة إلى منع المجرمين من الهرب من العدالة، مهما كانت مناصبهم أو مكانتهم الاجتماعية، وكشف تحايلهم على القوانين، وحرمانهم من إخفاء الأموال المسروقة في أي من بلدان العالم، سواء أكان ذلك في حسابات مصرفية بأسماء الغير أو داخل كيانات تجارية وهمية، واسترداد تلك الأموال وإعادتها إلى مستحقيها، على أن تكون الملاحقة ضمن إطار القوانين والالتزامات الدولية، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد UNCAC، واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود UNTOC.

الاجتماع الأول للمبادرة، الذي عقد افتراضيًا، بمشاركة 25 منظمة دولية معنية، منها الإنتربول، ومجموعة العمل المالي (فاتف)، ووحدات الاستخبارات المالية (مجموعة إيجمونت)، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، إضافة إلى ممثلين عن دول مجموعة العشرين، وبحضور عدد كبير من الخبراء المتخصصين يشير إلى أن النجاح سوف يكون - بإذن الله - حليفا لهذه الجهود، فقد خرج بنتائج في غاية الأهمية، تضمنت إنشاء شبكة عالمية للسلطات القانونية المختصة بمكافحة الفساد، تحت مظلة الأمم المتحدة.

ولم يغفل الاجتماع التطرق لأهمية تعزيز أطر التواصل وتمرير المعلومات وتبادل المستندات والأدلة وتطوير المعرفة، والاهتمام بتحليل المعلومات والحيثيات، وإنشاء منصة عالمية لتسهيل تبادل المعلومات، وإطلاق برنامج متخصص على مستوى عال لبناء القدرات داخل الشبكة لتدريب منسوبي سلطات مكافحة الفساد في الدول النامية.

هذا الجهد السعودي الخالص الذي قوبل بتقدير عالمي واسع النطاق يثبت أن المملكة في طريقها لتتبوأ المكانة اللائقة بها على مستوى دول العالم، ليس في المجال الاقتصادي فقط، بل على الأصعدة والمجالات كافة، لا سيما ما يتعلق منها بقضايا الحوكمة والشفافية وترسيخ مبدأ الشفافية والمحاسبة، وقد قطعت شوطا كبيرا في هذا الصدد، والدليل على ذلك ما أكده التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية لمؤشر مدركات الفساد للعام الماضي، والذي أثبت العديد من المؤشرات الإيجابية بحق المملكة، وأثنى على جهودها للتغلب على مشكلة الفساد، وهو ما كان سببا مباشرا في التقدم الكبير الذي حققته في تصنيف المنظمة خلال السنوات الأخيرة كنتيجة طبيعية لفعالية إجراءاتها المتواصلة.

ولأنها دولة قيادية ورائدة، لم تشأ السعودية الاكتفاء بجهودها المحلية لترسيخ مبادئ الشفافية والعدالة، واختارت أن تشارك الآخرين تجاربها الناجحة وتنقل لهم خبراتها، وتسهم في تدريب منسوبي الدول الأقل نموا، قناعة منها بأن العمل الجماعي هو أقصر السبل لتحقيق الهدف الأسمى المتمثل في إقرار الشفافية والنزاهة والعدل، لاسيما في هذا العصر الذي أصبح فيه العالم قرية صغيرة يتجول فيها الإنسان بين المؤسسات المالية بكبسة زر على جهاز كومبيوتر محمول أو هاتف شخصي من أي بقعة على الأرض، وهي المزايا التي قد يستخدمها ضعاف النفوس الذين يستأثرون بالمال العام وينهبون خيرات أوطانهم.