لا أختلف مع أحد في كون الديمقراطية تتكون من جذور فكرية وأدوات، وأعلم أن كثيرين يقولون بأهمية استيراد أدوات الديمقراطية دون فلسفتها، لكن توريط الشعوب في ثورات وصدامات مع حكوماتها وجيوشها لم يكن من جذور الديمقراطية ولا من آلياتها، حيث لم تقم على العنف ديمقراطيات قديمة مثل أسبرطة وأثينا، ولا الديمقراطيات الحديثة مثل الديمقراطية الإنجليزية التي هي إصلاح من الملك جون، الذي أسس البرلمان الإنجليزي المنتخب في منتصف القرن الثالث عشر، وتطورت صلاحياته شيئا فشيئا. يؤكد ذلك أن الثورة الإنجليزية في ١٦٨٨م، التي تسمى «الثورة الجليلة»، إنما قام بها البرلمان المنتخب ليس الشعب، وكانت اعتراضا على «وثيقة التسامح» التي أصدرها الملك، وهي وثيقة تمنع الاضطهاد على أساس مذهبي، وتتيح المناصب لكل إنجليزي مهما يكن انتماءه، لكن البرلمان المنتخب الإنجليكاني لم يرض ذلك، ولم يرتض دخول كاثوليك أو بريتانيين ضمن أعضائه ولا في المناصب العليا، فحرض على هذه الثورة، مستعينا بقوات وقيادات أجنبية، وكذلك الديمقراطية الفرنسية والأمريكية، فليس أي منهما نتاج ثورة شعبية، كما يحاول مروجو الفكر الثوري اليوم إيهام الناس به.

كما أن المنهج العملي الصحيح في الكتابة بالتنظير السياسي هو المنهج المنطلق من دراسة الواقع ووضع الأدوات للرقي به، وليس التنظير الحالم المجرد من أي مقارنات واقعية وتاريخية بعيدة عن عبث الأهواء؛ لإيجاد إطار تنظيمي يحقق أكبر قدر من مقاصد الحياة التي هي مقاصد الشريعة الإسلامية، وهذا النوع من الكتابات نفتقر إليه في ثقافتنا الإسلامية المعاصرة، التي أثر الفكر السياسي الغربي على تنظيراتها بشكل كبير جدا، حتى إنها توقفت عنده، وظلت تنظر إلى التراث الإسلامي السياسي بعد عصر الخلافة الراشدة نظرة مقت كبيرة، وتنظر إلى الواقع السياسي على أنه إما نتاج ذلك الإرث الممقوت أو صنيعة استعمارية لا يُمكن التفاهم معها، ولا تجد عندهم وسيلة للإصلاح السياسي إلا عن طريقين: إما الهجوم على النظام القائم للانقلاب عليه، كما حدث في الثورات القومية منتصف القرن الماضي، وما حدث فيما يسمى زورا «الربيع العربي»، وإما الدخول ضمن هذا النظام، للاستيلاء عليه، كما حدث في عدة تجارب قبل الثورات العربية الأخيرة وبعدها، وكل ذلك لم يجد نفعا بل أثمر حنظلا وصبرا، ذاقت الشعوب منه أعظم البلاء.

وقد انجر كثير من المنتسبين للمنهج السلفي إلى هذا المنزلق في التفكير السياسي؛ لأنهم هم وغيرهم وجدوا فراغا في الإبراز المستقل للفكر السياسي السلفي الذي يسعى لإصلاح الواقع مع المحافظة عليه وليس تدميره، وهو ما فعله مؤلفو كتب الأحكام السلطانية وفق ما يتناسب مع أزمانهم، والتي كان من المفترض أن يُكتب فيها وفق ما يناسب زماننا ومكان كل منا.

نعم كتب الكثيرون عن شرح أحاديث طاعة ولاة الأمور، وتكلموا عن صحتها، ونقلوا أقوال الفقهاء الكبار في لزوم الأخذ بها، وكثير منها شروح مباركة عظيمة النفع، لكن تبقى هناك مهمات تحتاج إلى الاضطلاع بها، يفرضها الواقع المعاصر، ومنها رد الشبهات التي تزعم أن تلك الأحاديث إنما هي تأصيل للاستبداد، وبذلك فهي تعارض مقاصد الشريعة التي تدعو إلى الحكم الرشيد وتذم الطغيان، وتنتهي الشبهة من ذلك إلى عدم صحة تلك الأحاديث، وأنها أُلِّفَت هي الأخرى كنشاط سياسي لمصلحة الحكام. شيوع هذه الشبهة وانطلاؤها حتى على كثير من الإسلاميين يعكس الفقر في التربية الإيمانية بالتنظير السياسي المعاصر، إذ لم يعد قبول الحديث ورده مرتهنا بمدى صحته من جهة الصناعة الحديثية، رواية ودراية، بل أصبح مرتهنا بمدى موافقته الأهواء!.

ولا شك أن ذلك خلل إيماني، لأنه معارض للتسليم لقضاء الله وقضاء رسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي أمرنا الله به في قوله: «وَما كانَ لِمُؤمِنٍ وَلا مُؤمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسولُهُ أَمرًا أَن يَكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم وَمَن يَعصِ اللَّهَ وَرَسولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالًا مُبينًا» [الأحزاب: ٣٦]. وهؤلاء وإن أنكروا كونهم غير مُسَلِّمِين لقضاء الله ورسوله بمزاعم أن الأحاديث في ذلك لم تثبت عندهم، إلا أن هذا الإنكار لا ينفعهم؛ إذ الأحاديث بلغت من الكثرة واتفاق علماء الحديث في مختلف العصور على صحتها حدًّا يمتنع معه تضعيفها. كما أن أمثال هؤلاء من منكري السنن لا يُبالون بالاحتجاج بأحاديث واهية أو غير قاطعة الدلالة، يتأولونها ليستنبطوا منها ما يوافق توجهاتهم السياسية.

لذلك نقول: لن تكفي الدراسة الإسنادية في القضاء على هذه الشبهة، بل لا بد من الدراسة المقاصدية التطبيقية على التاريخ الإسلامي؛ لمواجهة الدعاوى المقاصدية التي يتذرعون بها إنكارهم النصوص، وأعظم مقصد يؤيدها هو حفظ الضرورات والحاجات والتحسينات بكلِّيَاتها الخمس، ولا يُنكر إلا مُكَابِر أن الخروج على الأمراء من أعظم الذرائع، لذهاب الضرورات التي تذهب الحاجات والتحسينات بذهابها، فحالات الخروج إمَّا أَنْ تذهب بالضرورات، وإما أن تذهب بمزيد من الحاجات والتحسينات؛ لذلك فإن من السفه طلب الحاجات والتحسينات عن طريق إسقاط الضرورات، وهذا للأسف ما حدث في ثورة ليبيا وسورية واليمن والعراق، فلم تكن الثورات فيها لطلب الضرورات؛ بل لطلب الحاجات أو التحسينات، وهي أُمُور من حق المواطن، لا يُنَازِعُ في ذلك أحد، لكنّ طلبها بطريق يُفضي إلى القضاء على الضرورات، أو يفاقم فوات الحاجات والتحسينات لا يمكن أن يكون شرعيا.

إذن فالفكر السياسي السلفي يبدأ أولا من التربية الإيمانية، ليس فقط لإحداث القناعة بصحة أحاديث الطاعة؛ وإنما لأن الإصلاح برُمَّتِه في المفهوم السلفي ينطلق من الإيمان بالله تعالى، وبحقيقة الدنيا ورسالة الإنسان فيها، التي تنبني عليها معرفة الإصلاح من الوجهة السلفية ومراتبه وأولوياته.

ثم تأتي مهمة التعريف الإسلامي للحقوق، والتمييز بين ما هو حق وما ليس بحق في الفقه الإسلامي دون الرضوخ لدعاوى الفكر الغربي الذي يَنْظُر للحقوق من زاوية ثقافته هو، وتعمل دُوَلُه على فرض رؤيتهم على المسلمين. ولا نتعجب من الاتجاهات الليبرالية أو اليسارية والقومية لدى أبناء المسلمين حين نراها تنتقل للزاوية الغربية، لِتَنْظُرَ هي أيضا إلى الحقوق من خلالها، لكننا نستغرب حين نرى بعض الإسلاميين الذين نشأوا وَرَبَّوا تلاميذهم على نظرة الشك والريبة تجاه كل شيء يُصَدِّرُه الغرب، ويرجعون في سياسة الأمة إلى المُنتج الفكري الغربي، ليس في تنظيم إداري صرف يمكن أن تُفِيدَ الأممُ فيه من بعضها، وإنما في تنظيم ذي جذور فكرية عميقة، ولم يَبْقَ هؤلاء الإسلاميون فيها كما كانوا يقولون سابقا في ادِّعاء الأخذ بالآليات دون الجذور؛ بل امتدوا للالتصاق بالجذور العلمانية للديمقراطية ثم إلى أسلمة العلمانية، ومنهم من جنح إلى استحلال بعض المحرمات: إما بحجة ضغط الواقع وإما بحجة الحرية، ومزاعم كونها مقصدا شرعيا وشعيرة إسلامية، مما يؤكد أن التطبيق العملي يُحيل القدرة على فصل الآليات عن الجذور.

الأمر الذي ينقلنا إلى ضرورة الحديث عن سَدِّ الاحتياج الفقهي من استحداث آليات لا تنتمي للفكر العلماني، وإنما تنتمي لتراث الأمة، لتكون البدائل الشرعية للعمل الديمقراطي التي تَحُولُ دون مفاسد الطغيان، وتوصل إلى الحقوق بمفهومها الإسلامي، وهنا سنكون مضطرين للعودة لمصطلحات تنتمي لمفاهيم إسلامية محضة مثل العدل والشورى وأهل الحل والعقد والجماعة والبيعة، وكذلك مفهوم تطبيق الشريعة، والمعنى الأصيل للحكم بما أنزل الله تعالى، لا لنضعها أعلاما على مؤسسات منقولة عن النظم الحضارية الأخرى كنوع من أسلمة أو توطين المصطلحات مع إبقاء الجوهر العلماني؛ بل لوضعها أعلاما على مؤسسات جزء من نظام إسلامي مستقل، وإن استفاد في بِنيَتِه الفوقية من هنا وهناك، ما لم تكن هذه الاستفادة في أمر مرتبط بالجذر العلماني.

في المقابل، لا بد من تحديد موقفنا الصحيح والصريح من مصطلحات عابرة للعصور والدهور كمصطلحي «الدولة المدنية» و«الدولة الدينية»، فهل يمكننا وصف «الدولة الإسلامية» بأحد هذين المصطلحين دون حرج ودون أن يقفز بنا هذا الوصف إلى المعسكر المقابل، أم أن نشأة هذين المصطلحين في بيئة نقيضة لبيئتنا يجعلهما مُحَمَّلَتَينِ بأوضاع تلك البيئة؛ مما يعني ضرورة الاستغناء عنهما بوصفين من نتاج تاريخنا المعرفي يكفلان حصانتنا من أوباء المصطلحات؟.

وكل ما تقدم لا بد من أن يكون مرتبطا بغاية الوجود، ومهمة الإنسان في الحياة بالعقيدة الإسلامية، وكذلك يكون مرتبط بمفهوم «الدولة» وغايتها وحقوقها وواجباتها، ومفهوم «الجماعة» وحقوقها وواجباتها في الفقه الإسلامي.

التصدي لهذه الأمور والكتابة فيها، من وجهة سلفية قائمة على لزوم الجماعة والسمع والطاعة وتحقيق مقاصد الحياة الكريمة، التي هي كما قدمنا مقاصد الشريعة، فذلك ما ينقص حتى اليوم الكتابة السلفية في السياسة الشرعية، التي ما زال ضعف الكتابة فيها أحد أسباب التراجعات عن المنهج السلفي أو أسباب الاختلاف داخله، في وقت وجدنا فيه كتابات ذات فكر خارجي صريح أو خارجي، يتخفى بالعمل الحزبي، قَدَّمت أطروحاتها في هذا الموضوع بأرماق مستعارة، فضلَّت وأَضَلَّت.