تضارب كبير وتناقضات مدهشة وفوضى عارمة، هذه هي الحال التي تعيشها الميليشيات الحوثية هذه الأيام، لا سيما بعد تزايد المناشدات الدولية المطالبة بلجنة تحقيق دولية للتقصي في أسباب ودواعي وتفاصيل المجزرة البشعة التي اقترفها الانقلابيون خلال الأسبوع الماضي وراح ضحيتها عشرات القتلى ومئات المصابين من اللاجئين الإثيوبيين، الذين زجت بهم الميليشيات في سجن الجوازات المركزي في صنعاء، وأضرمت فيهم النيران بدم بارد، لمجرد أنهم رفضوا المشاركة في حرب لا تخصهم ولا دخل لهم بها.

تفاصيل الجريمة البشعة كما يرويها بعض الناجين من الضحايا تشير إلى أن الحوثيين زجوا بأولئك المهاجرين في سجن الجوازات، ودخلوا معهم في مساومة بدفع مئات الآلاف من الريالات أو المشاركة في القتال إلى جانب قواتهم المهزومة في مأرب والجوف وتعز، مقابل الحصول على بطاقات اللجوء. عندما رفض المهاجرون تلك المساومة الرخيصة قام الانقلابيون باستفزازهم والاعتداء عليهم، ومن ثم أغلقوا أبواب المعتقل بعد أن صبوا كميات من البنزين وسط النزلاء، قبل أن يقوموا بإلقاء قنابل يدوية أدت إلى اشتعال النيران، ورفضوا الاستجابة لمناشدة المساكين الذين كانوا يصرخون طلبا للنجدة، واكتفوا بمشاهدة حفلة الشواء.

حاولت الميليشيات التنصل من الجريمة بعد أن تكشفت تفاصيلها، وفي البداية ادعوا أن عدد القتلى لا يبلغ 10 أشخاص، وعندما فشلت تلك المحاولة بدأوا في نسج روايات غير متماسكة للهروب من تبعات جريمتهم التي وثقتها مؤسسات يمنية وطنية تعمل في المجال الإنساني. وتكاثرت الروايات التي تناقض نفسها، فمرة تعلن الجماعة أن الحادث وقع نتيجة تدافع وشجار بين اللاجئين أنفسهم، وتارة تزعم أن عناصر تابعة للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح تقف وراء إشعال النيران في السجن، كما لجأت إلى إرغام الجاليات الإفريقية الموجودة في اليمن على صياغة بيان هزيل مهترئ تحاول أن تجد عبره وسيلة تبرئ بها نفسها من تبعات تصرفاتها وقراراتها الصبيانية الطائشة التي لا تعتمد على رؤية أو موقف جماعي مدروس.

مهما يكن حجم الجريمة المروعة، فليس هناك شيء مستبعد من تلك الميليشيات الخارجة على القانون والتي يمكن أن تقدم على أي تصرف، فإن كانت القاعدة تقول (ليس بعد الكفر ذنب)، فإن الواقع على المستوى السياسي يقول إنه ليس بعد الانقلاب على الشرعية مخالفة. كما أن هذه الجماعة يقودها عدد من الفاقد التربوي الذين لم يتمتعوا بأي قدر من التعليم النظامي، ويفتقرون إلى أي خلفية سياسية، ويفتقرون إلى الوازع الديني والأخلاقي والإنساني، مما دفعهم إلى محاولة بيع بلادهم لنظام الملالي وقبضوا ثمن ذلك دراهم معدودات، ولم يكتفوا بذلك بل عادوا ليشاركوا في تدمير أرض العروبة ومهد الحضارة وبلاد الحكمة.

وجه الغرابة الذي يصيب الإنسان بالصدمة والحسرة والأسف يتمثل في السبب وراء ذلك الصمت المريب الذي يمارسه العالم تجاه هذه الجماعة الإجرامية، وعدم تحرك المنظمات الدولية للتحقيق والتقصي في أسباب المحرقة التي تضاهي محارق النازيين، فأي جريمة يمكن أن تحرك الضمير العالمي إذا كان مقتل وإصابة مئات اللاجئين البؤساء حرقا بدون ذنب جنوه يمكن أن يمر مرور الكرام دون أن يحرك ساكنا؟ وكيف للمسؤولين عن المنظمات الدولية أن يبرروا لأنفسهم وللتاريخ والأجيال المقبلة هذا التواطؤ وغض البصر؟ ولماذا يقف العالم عاجزا عن إرغام تلك الجماعة الإرهابية على الالتزام بأحكام القانون الدولي وتسليم السلطة للحكومة الشرعية؟

ما هو السبب الذي يدفع الدول الكبرى لتجاهل جريمة حرق نازية في سجن كبير؟ وما هي المكاسب السياسية التي يمكن أن تكون مبررا لذلك الصمت الذي يصل حد التورط والمشاركة في الجريمة؟ وما هي المصالح التي يحرص عليها الآخرون حتى وإن كانت ملطخة بدماء الأبرياء ودموع ذويهم وصرخات أطفالهم اليائسة؟

الحادث يضع المنظمات الحقوقية العاملة في صنعاء بمأزق لأنها لم تحرك ساكنا في مواجهة انتهاكات الميليشيات، وفداحة الحادث تبرهن على أن هناك تجاهلاً أممياً من جهة، وتقاعسا في أداء تلك المنظمات التي تتغافل كثيرا عن الجرائم التي ترتكبها، وهو ما يضاعف من حجم المطالبات التي تدعم فتح تحقيق دولي في الواقعة، ورغم صعوبة التخيل، وعدم الركون إلى نظريات المؤامرة وإطلاق الاتهامات في كل الاتجاهات، والميل إلى تغليب حسن الظن، إلا أن الإجابات على تلك التساؤلات تتكشف إذا أخذنا في الاعتبار أن الأمم المتحدة ظلت تلتزم الصمت التام على عمليات تهريب الأسلحة الإيرانية للانقلابيين عبر ميناء الحديدة، وعندما بدأت القوات الموالية للشرعية مساعيها لاستعادة ذلك الميناء ثارت ثائرة مسؤولي المنظمة الدولية الذين طالبوا بوقف تلك العمليات بزعم أنها يمكن أن تصيب اليمن بالمجاعة لأن الحديدة هي الميناء الوحيد الذي لا زال تحت قبضة الحوثيين. وهذا الموقف ربما يفسر ما أكدته تقارير رسمية يمنية أشارت إلى أن بعض السفن التابعة للأمم المتحدة متورطة فعليا في تهريب تلك الأسلحة للميليشيات.

الموقف الآن بأيدي قوات الجيش اليمني الوطني وعناصر المقاومة الشعبية الذين يسطرون أروع الملاحم ويكتبون فصولا من الفداء في معظم جبهات القتال، في مأرب والجوف وتعز وعلى تخوم صعدة، ومؤخرا أعلنوا فتح جبهة الحديدة، فقد لقنوا المتمردين دروسا في الشجاعة والإقدام، وحققوا انتصارات رائعة في تلك الجبهات راح ضحيتها الآلاف من المتمردين الذين لم تهتم قيادتهم حتى بانتشال جثثهم المتناثرة في الجبال والوديان، وتركتها نهشا للذئاب والكلاب الضالة.

تلك القوات الموالية للشرعية، والتي تنتقل من نجاح إلى آخر، بإسناد كثيف متواصل من طائرات التحالف العربي لاستعادة الشرعية، مطالبة أكثر من أي وقت مضى بتسريع وتيرة العمليات العسكرية لاستعادة البلاد من الميليشيات الإجرامية، وطردها إلى الجحور التي كانت فيها، وعدم الاستماع لأي أصوات مشروخة سوف ترتفع حتما خلال الأيام المقبلة للدعوة إلى التهدئة، فالمهمة باتت معروفة والأهداف واضحة ومحددة، فالحوثيون لن يتجاوبوا مع محاولات الحل السياسي، ولا يجدي معهم سوى أسلوب الضغوط العسكرية.