احتفلت الأمم المتحدة خلال الأيام الماضية باليوم العالمي لمكافحة الكراهية، واليوم العالمي لمحاربة أشكال التمييز العنصري كافة، حيث ألقى أمين عام المنظمة الدولية، أنطونيو جوتيريش، كلمة أشار فيها إلى خطورة الكراهية التي تنشأ لأسباب دينية، وخصّ بالذكر انتشار ظاهرة الإسلاموفوبيا ومطالبات اليمين المتطرف في كثير من الدول الغربية بترحيل المهاجرين واللاجئين وإقصائهم عن الحياة العامة، وفي ذات الوقت تزايد معدلات العنصرية التي تظهر في ادعاءات الشعبويين التي تزعم تفوق العرق الأبيض على بقية الأعراق.

وإن كانت البشرية قد ابتليت خلال العقود الماضية بانتشار آفة الإرهاب التي ضربت معظم أنحاء العالم، ولم تكد تسلم من شرورها دولة من الدول، فإن ذلك لم يحدث بدون مقدمات، بل كان نتاجا طبيعيا لأفكار متطرفة سالبة، فالمشكلة ليست أمنية فقط، بل هي أزمة فكرية في المقام الأول، والسبب في بروز ظاهرة العنف يعود إلى الغلو الفكري وانتشار كراهية المخالف.

الأسباب الموجبة للكراهية تتعدد وتختلف حسبما يؤكد علماء النفس ومستشارين قانونيين، لكن في كثير من الأحيان تتكون في نفوس الأفراد منذ نشأتهم الأولى داخل البيئات التي يتربون فيها، إضافة إلى وجود أسباب أخرى مثل البطالة، وسوء التربية، والتفكك الأسري، والفشل الدراسي، والإعلام التحريضي، والبيئة غير السليمة، وسوء الفهم لمبادئ الدين، والطغيان الذي تمارسه بعض حكومات العالم ضد مواطنيها وتهميشهم.

كذلك فإن لجوء البعض لإطلاق تصنيفات فكرية أو ثقافية أو قبلية أو مناطقية، تصاحبها في العادة استفزازات وإساءات مرفوضة تهدف إلى التقليل من قدر الآخر، وربما يصل بها الحال إلى التخوين وتوزيع الاتهامات، هي من الممارسات التي تبرز نتيجة لمفاهيم مغلوطة وأفكار منحرفة، لأنها تتسبب في ضرب مبادئ الوحدة والوطنية وتتسبب في تقسيم أبناء الوطن الواحد إلى مجموعات منفصلة تعيش كل منها في جزيرة منعزلة، وهو ما يؤدي إلى تعزيز مناخ الكراهية والإقصاء.

كذلك يلاحظ وجود رابط قوي بين مستوى التعليم ونسبة تفشي الكراهية والخلافات التي تقوم على أساس عرقي، فالمجتمعات التي تنخفض فيها معدلات الاهتمام بالتعليم النظامي هي مجتمعات خصبة لانتشار مثل هذه المشاعر السالبة، وبالتالي تتلاشى قيم التسامح وقبول الآخرين والرغبة في التعايش. لذلك تبدو الصلة قوية بين انتشار التعليم ومؤسسات التنوير الفكري والحضاري ومدى تفشي تلك الأوهام وانعدام آفاق التسامح.

ولأن الكراهية والتطرف كما أسلفنا مشكلتان فكريتان في المقام الأول، فإن الطريق الأمثل لمواجهتها يكمن في تشجيع الحوار والميل إلى التعايش واحترام الآخر وقبوله دون إقصاء، لأن تلك القيم السامية هي نتاج حضاري تمتاز به المجتمعات المتقدمة، شريطة أن يتم الحوار بأسلوب متحضر ولغة راقية بدون إسفاف أو تجريح.

على الصعيد الديني فإن الأديان السماوية كافة، تتفق على تحريم الكراهية وتدعو أتباعها للابتعاد عنها والتمسك بالتسامح والتجاوز عن الصغائر والهفوات، وصون كرامة الإنسان وحقه في حياة كريمة آمنة، على أسس من الحرية والعدل والمساواة، بغض النظر عن عرقه ومعتقده ودينه. وقد أولى الإسلام عناية خاصة للتصدي لخطابات التطرف والإقصاء، وحرّم العنصرية وجعلها من مسبّبات الشقاق والخلاف المنهي عنهما، وأوجب على أتباعه التعايش مع الآخر، والإحسان إليه، ما لم يجنح إلى العداوة والحرب، ومنع إكراه الآخرين على الدخول فيه، وذلك في قوله تعالى (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

ونظرة سريعة على الواقع المحلي توضح أن المملكة اهتمت منذ توحيدها بترسيخ مفاهيم الوسطية والاعتدال والتسامح، ومواجهة خطابات العنصرية والقبلية، وتصدت بصرامة لخطاب الكراهية، واهتمت بنشر قيم التسامح والتعاون والاعتدال، حيث نص النظام الأساسي للحكم في أكثر من مادة على أن كافة المواطنين سواسية أمام القانون، دون النظر إلى أي اعتبارات عرقية أو مذهبية أو مناطقية، وأن معيار التفاضل الوحيد بين الجميع هو المواطنة الصالحة ومقدار الالتزام بالأنظمة والقوانين.

ولأن الحوار هو الأساس الذي تقوم عليه جهود مواجهة خطاب الكراهية فقد عملت المملكة على تعزيز هذا الجانب عبر إنشاء مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني، الذي كان له دور كبير في ترسيخ معاني المواطنة الحقة، وناقش العديد من القضايا الهامة، كما اهتمت المملكة بدعم الحوار بين أتباع الأديان المختلفة، وأنشأت مركز الملك عبد الله، تحت مظلة الأمم المتحدة، ورصدت له ميزانيات ضخمة أدت إلى قيامه بدور كبير خلال السنوات الماضية وتحقيق العديد من النجاحات اللافتة.

كما وقّعت المملكة على معظم الاتفاقيات الدولية الخاصة بمحاربة التمييز، مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة، وغيرها من الاتفاقيات والمواثيق الدولية.

ورغم أنه تطل بين الفينة والأخرى بعض التجاوزات التي يرتكبها من أدمنوا التغريد خارج السرب، إلا أن السلطات المختصة تتصدى لها بالحسم والحزم اللازمين. لكن لاجتثاث هذه الخطيئة من جذورها ينبغي تكثيف الاهتمام بذلك داخل الأسرة والمدرسة، لأنهما نواة المجتمع والحاضن الأول والمصدر الذي يستقي منه الإنسان قناعاته وأفكاره، لضمان نشوء جيل مشبَّع بقيم الوحدة الوطنية ومبرأ من كل عناصر الفرقة والشتات. كما أن هناك أدوارا مماثلة بإمكان المسجد ووسائل الإعلام القيام بها لتحصين المجتمع من عوامل الكراهية والتمييز العنصري.

أما الدور الأكبر فأرى أنه ملقى على عاتق مؤسسات المجتمع المدني (القطاع غير الربحي) التي تمثل الصوت الحقيقي للمجتمع وتحرس قيمه وتصون مكاسبه، وهي انعكاس حقيقي لدرجة رقي هذا الشعب وتطوره، لذلك فإن الآمال معقودة على تلك المؤسسات لتقديم مبادرات عصرية تسهم في تحصين المجتمع ضد هذه الآفة التي كانت السبب في تدمير بلاد ابتليت بداء الكراهية والعنصرية والتصنيفات الفكرية والعرقية.