كشفت جائحة «كورونا»، التي يعيشها العالم في الوقت الحالي، عن مدى التباين المخيف بين المبادئ التي تنادي بها بعض دول العالم، وعلى وجه الخصوص تلك التي اصطلح على تسميتها «الدول الكبرى»، التي ترفع لافتات براقة تتشدق فيها بالحفاظ على حقوق الإنسان، والحرص على كرامة البشر، وبين التطبيق الفعلي لتلك الشعارات وإنزالها على أرض الواقع، ولا سيما بعد بدء توزيع اللقاحات التي تم إقرارها للتصدي للفيروس الذي ضرب العالم، وتسبب في موت قرابة ثلاثة ملايين شخص، وأصاب كل أشكال الحياة بالشلل التام.

تلك الدول «المتقدمة»، التي كثيرا ما تغنت بحقوق الإنسان، ومارست صلفا غير محدود على غيرها من الدول بزعم انتهاك تلك الحقوق، تناست وتجاهلت عند أول امتحان حقيقي أن الحصول على العلاج والتمتع بالصحة البدنية والعقلية، بعيدا عن أي اعتبارات أو تمييز، هو أول حقوق الإنسان الأساسية.

لكن الدول صاحبة الاقتصادات الضخمة، التي تستأثر بالنصيب الأكبر من ثروة العالم، لم تتورع عن المسارعة إلى احتكار معظم اللقاحات التي تم إنتاجها، ليس فقط لتوزيعها على مواطنيها، بل لتخزينها، وجعلها سلعة بغرض الاتجار فيها، غير عابئة بانتشار الوباء في الدول الأقل نموا التي تعاني مشكلات اقتصادية مزمنة، تحرمها من المنافسة في هذا «البازار» العالمي، مما تسبب في موت أعداد كبيرة من سكانها الذين لا يملكون ثمن الطعام، ناهيك عن اللقاح.

الوجه الآخر للمأساة يتمثل في أنه حتى الدول التي استطاعت توفير الأموال على حساب قوت مواطنيها البؤساء واضطرت للاقتراض، لم تنفعها أموالها في الحصول على اللقاحات التي يمكن أن تعيد بها بصيص الأمل لشعوبها، لأن الشركات المصنِّعة امتنعت عن إبرام صفقات إضافية قبل أن تتمكن من توفير كميات الدواء التي تعهدت بها للدول الكبرى، وهو ما يعني عمليا أنه يتوجب على الدول الفقيرة الانتظار فترة أخرى قد تستمر شهورا أو أعواما إضافية.

أما الجانب المؤسف في الأمر، فهو أن معظم الدول التي حصلت على اللقاحات، بفضل إمكاناتها المادية الكبيرة، حازت على أكثر مما تحتاجه في الوقت الحالي، واحتاطت بكميات إضافية لأي تطورات قد تحدث مستقبلا، حسبما أكده المدير العام لهيئة الصحة العالمية، تيدروس أدهانوم، الذي أشار، في تصريح صحفي يقطر مرارة، إلى أن «العالم على شفا كارثة أخلاقية كبرى بسبب عدم عدالة توزيع لقاحات التطعيم ضد الفيروس، وضآلة نصيب الدول الفقيرة بهذا الصدد».

وإن كان مسؤولو تلك الدول يستندون إلى دوافع علمية تبرر احتفاظهم بكميات إضافية من اللقاحات، فقد فات عليهم أن العلاج الذي ربما يكون مفيدا في المستقبل بالنسبة للبعض، فإنه بالتأكيد يعني في الوقت الحالي للآخرين مسألة حياة أو موت، لذلك فمن يملكون القدرة على الانتظار بأمان عدة أشهر يجب ألا يأخذوا اللقاحات التي حتما سوف تنقذ حياة غيرهم اليوم، لكنها الازدواجية في المعايير، والنظر إلى الناس بحسب ما يملكون من أموال، وما ينحدرون إليه من عرقيات، وما يعتنقونه من أديان.

مثل ذلك السلوك الأناني يؤدي لاهتزاز القناعة بقيم ومبادئ حقوق الإنسان، واضطراب مسار العلاقات الدولية، وإضعاف فرص التعاون الدولي، كذلك فإن عدم حصول مواطني الدول الأشد فقرا على الدواء اللازم لاستئصال المرض يهدد بعودته مرة أخرى، وربما بصورة أكثر ضراوة وعدوانية، لأن العالم أصبح قرية صغيرة يتداخل سكانها ويتواصلون، ووجود الفيروس في أي بقعة من العالم يعني سهولة انتقاله للآخرين.

ومما يحز في النفس أن أنانية بعض الدول الأوروبية لم تتوقف عند حدود الحصول على اللقاح بطرق غير عادلة، بل إن عملية التوزيع داخل تلك الدول نفسها شابتها اعتبارات غير أخلاقية، حيث أعطت الأولوية لمواطنيها، ومن بعدهم أبناء دول الاتحاد الأوروبي المقيمين على أراضيها، وأخيرا يأتي السكان الذين ينحدرون من بقية دول العالم، وهو ما يعني تغييب الضمير الإنساني، وإعلاء الحسابات المادية، وتصنيف الناس على أسس غير عادلة.

قد فطنت القيادة السعودية لهذا السيناريو الذي يحدث حاليا، فنادت، خلال رئاستها القمة السابقة لمجموعة دول العشرين، بمراعاة الدول الأشد احتياجا، وطالبت بدعمها خلال الجائحة، وأسهمت كذلك في إنشاء مبادرة «كوفاكس»، التي أطلقتها منظمة الصحة العالمية، لتجميع الأموال من البلدان الغنية والمنظمات غير الربحية من أجل توفير ملياري جرعة من اللقاحات للدول الفقيرة بحلول نهاية العام الجاري.

وجه المفارقة بين موقف المملكة ومواقف الدول الكبرى لم يقتصر على مجرد الدعوة إلى مساعدة الدول الفقيرة، فعلى المستوى العملي وفرت السعودية اللقاح مجانا لمواطنيها ولجميع المقيمين على أرضها، بغض النظر عن جنسياتهم أو أديانهم أو وضعهم القانوني، بل إنها كفلت الحق في العلاج حتى لمن انتهكوا قانون الإقامة، وهو ما وجه به خادم الحرمين الشريفين، الملك سلمان بن عبدالعزيز، حفظه الله. ولم تكتف السلطات بتوفير اللقاح في كل المدن والقرى، بل تقوم بحملة توعوية ضخمة، لحث المواطنين والمقيمين على التوجه لأقرب مركز تطعيم من أجل أخذ الجرعات بصورة فورية ودون تأخير.

بكل تأكيد، فإن السبب في اختلاف طريقة التعامل السعودي لا يعود إلى أن المملكة أكثر ثراء من تلك الدول، ولكن لاختلاف النظرة إلى الإنسان، ولتغلغل الرحمة والإنسانية في نفوس قادتها وشعبها. هذه هي أخلاقنا وقيمنا التي يحق لنا أن نفاخر بها أمام الآخرين، ونرفع بها رؤوسنا، وهي راسخة في دواخلنا، لأنها مستمدة من ديننا الإسلامي الحنيف، وبيئتنا العربية الأصيلة وعاداتنا وتقاليدنا المتوارثة، مما يستوجب منا أن نرفع أكف الحمد لله - سبحانه وتعالى - على نعمة الإسلام وشرف الانتماء لهذه البلاد المباركة.