في خضم المساعي الدولية الحثيثة للتوصل إلى اتفاق ملزم مع إيران حول برنامجها النووي الذي انسحبت منه الولايات المتحدة خلال فترة الرئيس السابق دونالد ترمب، تزايدت المطالبات بمشاركة دول الخليج العربية، لاسيما السعودية، في المفاوضات التي تجري الترتيبات الدولية لانطلاقها، باعتبارها صاحبة المصلحة الأولى من واقع مجاورتها لإيران، والمتضرر الأول من نشاطاتها المزعزعة للأمن والاستقرار من واقع تدخلاتها السالبة في شؤون دول المنطقة، وتشجيعها للنزاعات المذهبية وتجييش الميليشيات الطائفية، وتعمدها نشر السلاح غير الشرعي في تلك الدول، مما أوجد حالة من النزاعات والاضطراب.

وعلى الرغم من مسارعة النظام الإيراني إلى رفض المشاركة الخليجية في المفاوضات، بمجرد أن دعا لها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، والهجوم الشرس الذي شنته طهران على تلك الدعوة، إلا أنه ينبغي التسليم بأن دول الخليج أولى من الآخرين بالمشاركة لأنها المتضرر الأول من أنشطة طهران العدائية، وهذه المشاركة لا ينبغي أن تكون محل نقاش، فهي سوف تضيف الكثير لسير المناقشات وتساعد على تلافي عيوب الاتفاق السابق، والتوصل إلى اتفاق جديد يحظى بالإجماع.

هذا الرفض الإيراني يؤكد من جديد التناقض الذي يعاني منه نظام الملالي وبات سمة ملازمة له، لأن رئيسه حسن روحاني سبق أن أطلق في مناسبات عديدة تصريحات صحفية حول الحاجة إلى الحوار مع الدول المجاورة، كما أرسل خطابات عدة إلى مجلس التعاون حملت اقتراحات ودعوات إلى بدء تفاوض يفتح صفحة جديدة في العلاقات الخليجية - الإيرانية، وما إن جاءت الفرصة الحقيقية لبدء ذلك الحوار حول قضية حيوية تهم كافة دول المجلس حتى سارع إلى رفضه، وهو ما يثبت أن دعواته ومقترحاته السابقة للحوار لم تكن سوى محاولة جديدة للمناورة والتسويف.

وأيا كان موقف طهران، ينبغي التأكيد على أن مشاركة دول الخليج هي حق أصيل لها وليس منحة تنتظر موافقة الآخرين عليها، لأنها تمثل ضمانة لأمنها واستقرارها، لا سيما بعد تزايد التأييد الدولي لذلك، فإضافة إلى الموقف الواضح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فقد أشار الرئيس الأميركي جو بايدن خلال مقابلة تليفزيونية إلى أنه وبمجرد استئناف المفاوضات حول الاتفاق النووي، فإنه من الضروري إحداث تغييرات جوهرية على الاتفاق القديم تشمل إطالة مدة القيود المفروضة على إنتاج المواد الانشطارية، وأن لا يقتصر الحوار على الدول الست، وأن تضم بعض دول الشرق الأوسط، لا سيما السعودية والإمارات، كما أكدت روسيا والصين ضرورة إجراء حوار يشمل الدول الخليجية مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن حول قضايا الأمن الإقليمي.

وينظر إلى المشاركة الخليجية في المفاوضات على أنها ضرورة حتمية في ظل السلوك العدواني لإيران في المنطقة، وتدخلها في شؤون جيرانها والإضرار بالعديد من العواصم العربية. كما تعمدت عدم بناء جسور من الثقة خلال السنوات الماضية مع المجتمع الدولي، وركزت على الاستفادة من الثغرات الموجودة في الاتفاق السابق، وهو ما أدى إلى انهياره وانسحاب الولايات المتحدة منه.

هناك نقطة جوهرية ينبغي الانتباه لها أيضا عند استئناف التفاوض، تتمثّل في أن مساوئ الاتفاق القديم لا تقتصر فقط على عدم كف إيران عن أنشطتها العدوانية، بل إن هناك مخاطر أخرى تهدد المنطقة برمتها تتعلق باحتمال حدوث أخطاء في عمليات التخصيب ونقل ودفن النفايات النووية وغيرها من المراحل، وفي ظل العجلة والسعي المحموم لإنتاج السلاح النووي يتزايد احتمال ارتكاب أخطاء فنية قاتلة مثل التلوث أو التسرب الإشعاعي مما يتسبب بحدوث كارثة بيئية مدمرة، لا قدر الله. لذلك لا بد من مراجعة الاتفاق واستكمال نواقصه وإضافة بنود أخرى حيوية، مثل إلزام طهران بالسماح بدخول المفتشين الدوليين في أي وقت ولأي موقع دون اشتراط ترتيبات وأذن مسبق.

مثل هذه النواقص تؤكد من جديد الحاجة الماسة لإدراج تعديلات جوهرية على الاتفاق القديم الذي لا تقتصر عيوبه فقط على نصوصه، بل تتعدى ذلك إلى محدودية نطاقها، وعدم وجود آلية متابعة واضحة وغياب بنود تسمح بمعاقبة طهران في حالة الإخلال بأي من التزاماتها.

ولأن الاتفاق فشل في تغيير سلوك إيران خلال السنوات الست الماضية، بعد أن زادت وتيرة تطوير برنامجها الصاروخي، وضاعفت من أنشطتها المزعزعة للاستقرار في المنطقة، فإن سلاح العقوبات يبقى ضروريا لكبح ذلك النظام، والتصدي لمغامراته الطائشة وتصرفاته غير المقبولة، وممارسة أقوى الضغوط عليه لتفكيك برنامجه الإرهابي المتعلق بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة التي يطلقها العملاء على دول الجوار، ووقف التهديدات التي تؤثر مباشرة على حركة الملاحة العالمية.

وتبقى قضية التصدي للتدخلات الإيرانية السالبة في شؤون دول المنطقة وتهديداتها المتمثلة في الصواريخ الباليستية جزءا أساسيا من الاتفاق الجديد الذي يُنتظر التوصل إليه، لأن السلام والاستقرار لن يتحققا في هذه المنطقة الحيوية من العالم بدون تقليم أظافر ذلك النظام وإرغامه على سياسة حسن الجوار، فالسيناريوهات المؤلمة التي نشاهدها في سورية والعراق ولبنان واليمن قابلة للتكرار في دول أخرى إذا واصلت طهران سياساتها المدمرة التي تستخدم مصائر الدول ومستقبلها كأدوات ضغط سياسية لتحقيق أحلامها ومخططاتها.

المجتمع الدولي مطالب الآن بإظهار جديته في التعامل مع هذا النظام المارق الذي يهدد العالم أجمع، ووقف كافة أشكال المناورات والمزايدات السياسية واستخدام هذا الملف كورقة سياسية للاستفادة من حالة عدم الاستقرار في الشرق الأوسط وإبقاء طهران كبعبع لابتزاز الدول، فالواجب يقتضي تقديم المصالح العامة على حساب النظرات الضيقة، حتى لا يستيقظ العالم ذات يوم ويفاجأ بأن الوقت قد فات، وأن الدولة المصنفة كأكثر الدول الراعية للإرهاب باتت تمتلك سلاحا نوويا يمكن أن تستخدمه لتضع العالم فوق فوهة بركان قد يثور في أي لحظة.