قد يبدو الأمر جليا للوهلة الأولى، وهو أن المفاهيم تتغير حسب الثقافة، التي تنتمي إليها، وبالتالي علينا ألا ننظر إلى مفهوم ما بنفس النظرة ذاتها، بغض النظر عن خلفية المفهوم وبيئته وزمانه، الأمر أعمق من ذلك بكثير، فحتى في ذات الثقافة وذات الزمان والمكان، ينقسم الناس حول إدراك مفهوم ما، وكيف يتفاعلون معه، وكيف ينظرون إليه. مفاهيم مثل العداوة والنسوية والاستعمار، والاستشراق والأدب العالمي والمقارن، حتى الثقافة وغيرها هي أمثلة مهمة أوردها الدكتور سعد البازعي في الكتاب، وأوضح التباساتها معززا ذلك التبيان بنماذج كثيرة واستشهادات شرقية وغربية، لمفكرين وفلاسفة وشعراء، ونقاد ومؤرخين وروائيين وكتاب وأكاديميين.
فخ اللغة وإشكالات الترجمة
يشير المؤلف إلى أن تاريخ دراسة المفاهيم، بدأ متأخرا في منتصف القرن العشرين، واهتم به جملة من الفلاسفة والمفكرين الأوروبيين والأمريكيين، من زوايا ثقافية ولغوية، وتاريخية وسياسية ودينية، وكما أسلفت فالأمر ليس مجرد ترجمة وتفسير، فإذا أخذنا الجانب اللغوي على سبيل المثال، فنرى أن هناك كما من الحالات، التي سردها البازعي عن جهود بحثية، كتلك التي قام بها ريموند وليامز في حصره لـ176 كلمة مفتاحية، في معرض نقاشه للمفاهيم في كتابه الكلمات المفاتيح.
وعلى نفس المنوال، جاء المعجم الفرنسي، معجم ما لا يترجم، ليشير إلى حوالي 400 مفهوم في لغات مختلفة، لا يمكن ترجمتها إلا جزئيا لأسباب دلالية.
الأدب المقارن بدوره هو أيضا مفهوم جديد نسبيا، تطرق إليه الأمريكي رينيه ويلك في أزمة الأدب المقارن، كما هو مفهوم النسوية، وكلا المفهومين المنتقلين حديثا إلى الثقافة العربية، لهما تأويلات مختلفة وبالتالي تعاط مختلف، حتى في أواسط مبتكري هذين المفهومين.
العربية والتقانة
العالم قرية كما وصفه المفكر الكندي ماكلوهان، في ستينيات القرن الماضي، وربما أصبح الآن شاشة واحدة، مما جعل الارتباك الذي أشار إليه المؤلف في توظيف المفاهيم أكثر تعقيدا. فالسيولة الشعبوية أفرزت «العربتيني» و«العربيزي»، والقرآن الكريم أشار إلى حفظ الكتاب «إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون» ولم يشر إلى حفظ اللغة العربية، ناهيك عن أن الإملائيين العرب، لم يفصلوا الكتابة عن اللغة «بل أقحموا قواعد اللغة في الكتابة، فأصبح الإملاء العربي يشير إلى قواعد النحويين أكثر من وصفه للكتابة». تأثر اللغة العربية وتطور التقانة المتواصل، لم ينحصر في تحدي الترجمة بل تعداه إلى سوء فهم في المفاهيم، وفي أحيان أدى إلى نحت مفاهيم جديدة. كيف تتعاطى اللغة العربية مع هجرة المفاهيم وكيف تتلقاها، أو بالأحرى كيف يفهمها الناطقون بالعربية، هو مبحث هام في الكتاب، جدير بالتحليل بشكل مفصل وعميق.
ارتباك المفاهيم
ارتباك المفاهيم السياسية هو حالة أخرى تم تسليط الضوء عليها في الكتاب، من خلال مفهومي الاستعمار والاحتلال. ما هو الاستعمار؟ كيف نتعامل معه؟ هل كله شر مستطير؟ ما نوع العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر؟ وأسئلة أخرى.
علاقة مركبة
العلاقة المركبة مع «العدو» مفهوم آخر تم نقاشه في الكتاب بشكل مستفيض، استعرض فيه المؤلف أمثلة اختيرت بامتياز، شملت مفهوم العداوة بين الأديان، مثل الإسلام واليهودية، أو الإسلام والنصرانية، من خلال كتابات المفكر الأمريكي اليهودي من أصل عربي جلعاد النجار، أو نظرية المؤرخ البريطاني نويل مالكولم، في كتابه أعداء مفيدون، حيث قال إن المسلمين أسدوا للمسيحية معروفا كبيرا، حين سقطت القسطنطينية، لتجعل الكاثوليك أكثر قربا واتحادا مع الأرثوذكس. وفي الرواية والمسرح، تطرق المؤلف إلى مفهوم العداوة المعقد، في شخصيات مسرحية العاصفة لشكسبير، وغيرها من حالات الارتباك في مفهوم العدو.
والروايات العربية بطبيعة الحال كان لها نصيب من الاستشهاد، في إيضاح وتحليل مفهوم العدو والتأمل فيه وتداخله مع مفهوم الصديق، فعلى سبيل المثال لا الحصر استعرض البازعي عددا من الروايات العربية، منها تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية لعبدالرحمن لحبيبي، ورواية مسرى الغرانيق في مدن العقيق لأميمة الخميس، وفي كلتا الروايتين يقف البطلان أمام مشاهد ارتباكية من المفاهيم المضطربة، عندما يهاجران عكس اتجاه بعضهما البعض، إما بحثا عن الحقيقة أو تخلصا من القيود.
تحول الحضارات والكتب المفصلية
استعرض المؤلف بعضا مما سماه كتبا مفصلية في تاريخ الحضارات، ولكن ما شأن ذلك في هجرة المفاهيم؟.
لا شك أن الكتب أيا كانت علمية أو نظرية، أو أدبية تزخر بالمفاهيم، ولا شك - كونها مفصلية في صنع الحضارات - أنها تنتقل عبرها، عبر الترجمة، وأحيانا الإضافة والتعديل، كما في حال كليلة ودمنة وغيره. والمؤلف أو المترجم قد ينقل عبر كتابه مفاهيم من ثقافات أخرى إلى ثقافته، يساء فهمها فيكون مصيرها الرفض.
الإعجاب الملتبس المتبادل
الحديث عن الحضارتين و«الإعجاب الملتبس» حمل كثيرا من التحليل العميق في الكتاب. الإعجاب المتبادل كان في أحيان مركبا، وفي أحيان أخرى مزيجا من المشاعر المختلطة، وتارة إعجابا مشروطا. بيد أن المؤلف لم يغفل عن الحديث عن إسهامات المفكرين الغربيين، في مضمار الدراسات الشرقية والغربية، وكيف أن كثيرا من المفاهيم التي هاجرت باتجاهين، كان لا بد من توضيح اللبس حولها ووضعها في نصابها.
الحديث عن الاستشراق سواء من شرقيين أمثال إدوارد سعيد، في كتابه ألما بعد كولوني الاستشراق، أو من مفكرين غربيين أمثال ألكسندر بفيلاكوا، في كتابه جماعة الثقافة العربية، أو غيره أمثال غيبون وكرستوفر بيليغ وهانس، وكثير ممن أشاد ونوه بدور العرب والمسلمين وإسهاماتهم المميزة في الحضارة الغربية، الحديث في هذا المجال جاء في الكتاب في معرض «الإعجاب الملتبس» وتحديدا من الأوروبيين الذين اشتبكوا مع المسلمين حضاريا وعسكريا، فحدثت موجات من هجرات المفاهيم، انتقلت عبر إسبانيا وفرنسا واليونان، في عصور سابقة وعبر بريطانيا في عصور متأخرة.
إضافة عظيمة
إن «استقبال الآخر» و«قلق المعرفة» و«الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف» تحتم وجود هجرة للمفاهيم، سواء كانت تلك الهجرة شرعية أو غير ذلك، فالمثاقفة بشقيها التلقائي والمفروض، تفرز سيلا من التأويلات للمفاهيم، يبدو بعضها متضاربا وملتبسا، لكن سبر أغوار تلك المفاهيم وفك رموزها، يحتاج إلى نظرة ثاقبة ودراسة معمقة، وفهما واسعا وشاملا لها، وتحليل يصل إلى أمشاجها. هذا ما قام به الناقد والدكتور سعد البازعي في هجرة المفاهيم: قراءات في تحولات الثقافة.
الكتاب
«هجرة المفاهيم وانتقالها
بين اللغات والثقافات»
المؤلف
سعد البازعي
الناشر
المركز الثقافي العربي
أبرز المحاور
الدور المركزي الذي تلعبه المفاهيم في تطور الفكر وتنامي الثقافات
الكشف عن كيفية انتقال المفاهيم بين اللغات والثقافات
مفاهيم يناقشها الكتاب
النسوية وانتقاله من بيئته الغربية الحاضنة، إلى بيئة مختلفة كالبيئة العربية
مفهوم المقارنة في الدراسات الأدبية
مفهوم العدو في تشكيل العلاقات الثقافية
مفهوم الاستعمار والاستشراق
الأدب العالمي والمقارن