يمر الإنسان بمراحل عمرية مختلفة، لكل منها رائحتها وعبقها الخاص، زهور عطرية جُمَعَتْ بمزاجية، محب للحياة، متفائل بكل جديد وقادم، محتفظ بكل قديم وحديث، يتمثل كل مذكراته، جميلها وقبيحها، مُزِج فيها مرح بترح، وفرح بحزن، وسعادة بشقاء، وصحة بسقم، وغنى بفقر، «وتلك الأيام نداولها بين الناس».

المتأمل في مجتمعاتنا في الوقت الحاضر يلحظ ويلاحظ كثيراً من المتناقضات تجعلنا نعيش في حيرة من أمرنا، لا يُعْرَفُ الصادق من الكاذب، ولا الأمين من الخائن، ولا الصريح من المنافق، مظاهر برَّاقة، تسلب النظر، وتخفي وراءها ما لا يعلمه إلا الله.

نحن البشر بطبيعتنا نحكم على الآخرين بالظواهر، وأحياناً من موقف طارئ نعمم، فمن لَمَّعَ نفسَه من كل النواحي وبعناية، حصل على كل ما يريد، ومن رفض وقاوم؛ قُذِف في أوحال اللوم، والسخرية، والاستهزاء عِنْوة، خصومه أسرى المظاهر، وسجناء الأهواء، شياطين في صورة بشر، يمجدون أصحاب المناصب، والوجهاء، وذوي التجارة والأغنياء، ورؤساء العمل، ورفاق السفر الكرماء، لا يعترفون بصديق حميم، ولا برجل صادق حليم، همهم مصلحتهم والباقي في سقر وجحيم، لا يحترمون الزمان، ولا يقدرون المكان، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو فاحذرهم، بيوتهم من زجاج، يرمون بكرات من فلين ملغمة، ويكرهون الرمي بالحجارة.

فعندما يتقاعد ذلك المسؤول، أو يفتقر صاحبهم الغنى، أو ينتقل رئيسهم الممجد؛ ينقلبون على أعقابهم خاسرين، ويُرى الوجه الحقيقي لهم، تكسف شمسهم، ويخسف قمرهم؛ فيعيشون في ظلمات ليلاً ونهاراً، ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم «يرها»؛ ذلك جزاؤهم في الدنيا، وفي الآخرة أدهى من ذلك وأمر. يقول أحد المشهورين من أصحاب الأضواء، دُعِيَ للحضور لأحد البرامج المهتمة بمقابلة المشهورين من ممثلين، مطربين، شعراء، أدباء.. وغيرهم، بعد مرور خمسٍ وعشرين من آخر يوم ودع فيه أبواب الشهرة، وسيل المتابعين المطبلين المادحين له الليل، وأطراف النهار، حيث ولوا من غير رجعه.

يقول: أخذت حقيبتي، وذهبت إلى محطة القطار، ومكثت انتظره حاملاً حقيبتي بيمناي وتارة باليسرى، وثالثة أتوكأ عليها، فطال الانتظار ومللته.. بعد كل هذه المعاناة، وصل القطار، لكن لم أجد لي مكاناً، فغادر.. وبقيت.

انتظرت قطاراً آخر لعلي أجد مكاناً، بالفعل وصل بعد مدة طويلة من الانتظار فاقت الأولى بمراحل، فتحت الأبواب، ودخلت كالغريب، أحدق بعينيَّ في كل زاوية من القطار، إلى الأعلى، إلى الأسفل، يميناً، يساراً، فلم أعرف أحداً، تغيرت عليَّ الوجوه، ولم آلِف الركاب ولا السائق، حتى أماكن الجلوس اختلفت.

هل كل شيء تغير، أم أنني بقيت في نقطة البداية بعد النهاية ولم أتحرك ؟!، هذه رحلة الخمس والعشرين سنة ولت.

يا ترى الرحلة القادمة بعد كم سنة سيمرني القطار، أم أنها الرحلة الأخيرة ؟!.