استمرارًا لسلسلة النجاحات التي تحققها المملكة على الأصعدة كافة، لا سيما ما يتعلق بحقوق الإنسان، كنتاج طبيعي للثورة التشريعية الكبيرة التي تنتظم أرجاءها خلال السنوات الأخيرة، جاء اختيار المملكة مؤخرًا ضمن مجلس إدارة منظمة العمل الدولية، ليمثل شهادة عالمية على جدية الإصلاحات الحقيقية التي تبذلها السعودية في هذا الجانب، وتقديرًا لجهودها المخلصة، واعترافًا بجودة قوانينها ومطابقتها للمعايير الدولية المرعية. ومما يزيد من قيمة هذا الاعتراف العالمي أنه صدر من جهة مختصة، تتعامل وفق معايير ثابتة ومواصفات واضحة واشتراطات صارمة.

هذا الاختيار الذي يسري خلال الدورة الحالية لمجلس إدارة المنظمة الدولية (2021 - 2024) هو ترجمة فعلية لتوجه القيادة الرشيدة لتحقيق هدف غال نادت به المملكة منذ توحيدها على يد المغفور له - بإذن الله - الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، وهو ضمان العدالة في التعامل بين صاحب العمل والعمال، وحفظ حقوق الطرفين، وتزايدت المطالبة به خلال العهد الزاهر الذي نعيشه في الوقت الحالي، لاسيما بعد إقرار رؤية المملكة 2030 التي هدفت إلى ترقية المنظومة القانونية لتواكب الاتفاقيات الجديدة التي وقعتها الرياض، ولإضفاء المزيد من الجاذبية على سوق العمل المحلي، لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية وتفعيل الاستثمار.

ركزت الجهود السعودية لتحديث المنظومة التشريعية على تحقيق التواؤم ما يتطلبه التفاعل الإيجابي مع منظمات المجتمع الدولي، وهو ما تجلى في إصدار اكثر من 60 قرارًا إصلاحيًا تناولت حقوق الإنسان، وهو ما يؤكد الجدية التي تتعامل بها الرياض مع هذا الملف.


تنوعت التعديلات المتعددة التي أجرتها المملكة مؤخرا على سوق العمل لتهيئة بيئة أفضل للأيدي العاملة على مسارين؛ العمالة الوطنية والعمالة الوافدة، ففي المسار الأول اهتمت المملكة بترقية مهارات الشباب وتهيئة أفضل السبل أمامهم لزيادة معارفهم وقدراتهم، وذلك عبر توفير برامج التدريب المتطورة التي تعينهم على المنافسة في سوق العمل.

كذلك أولت القيادة اهتمامًا كبيرًا بإتاحة الفرصة أمام المرأة للانطلاق في مجال البذل والإنتاج، ورفعت القيود المصطنعة التي كانت تحول دون ذلك، وهيأت البنية التحتية الملائمة، عبر تشريعات أضافت زخمًا كبيرًا لسوق العمل، وقد لاحظنا جميعا خلال الفترة الماضية كيف كانت تلك المشاركة إيجابية وفاعلة.

ولتقليل الآثار السلبية التي ترتبت على إغلاق الاقتصاد خلال الفترة التي تلت انتشار جائحة كورونا، بادرت السعودية بتقديم جميع أنواع الدعم المطلوب للقطاع الخاص للاستمرار والبقاء، وتحملت فاتورة ضخمة بلغت مئات المليارات من الريالات للحفاظ على الوظائف عبر تقديم الدعم المادي المباشر للشركات والمؤسسات الوطنية. كما تم إلغاء وتقسيط وتأجيل سداد الكثير من الرسوم والضرائب والجمارك. وقد مثلت تلك الحزم من الدعم طوق نجاة للقطاع الخاص وأمدته بأسباب البقاء والاستمرارية.

إضافة إلى كل ما سبق فقد تم التركيز على جوانب أخرى في غاية الأهمية، مثل دعم القطاع غير الربحي لتوليد فرص مستدامة، وتطوير هذا القطاع الذي هو على جانب كبير من الأهمية للاضطلاع بالدور المطلوب منه.

أما على صعيد العمالة الوافدة فقد كانت التعديلات أكبر أثرًا وأكثر شمولًا، وشملت تعديل نظام الكفالة لإضفاء المزيد من الشفافية وتحسين العلاقة التعاقدية، وتعزيز الممارسات الأخلاقية العادلة للعمل، وحفظ حقوق العمالة وترقية الخدمات المقدمة لهم.

ويكمن الأثر الأكبر لتلك التعديلات في إتاحة المزيد من المرونة للعمال للتنقل بين مواقع العمل، وفق اشتراطات معينة وضوابط محددة تضمن حقوق الطرفين، وتتيح للعامل الحصول على حقوقه والبحث عن فرصة عمل أفضل إذا امتنع كفيله عن تسديد رواتبه لثلاثة أشهر، أو أخفق في تجديد إقامته ورخصة العمل، أو لم يكن هناك عقد ملزم بين الطرفين، وغير ذلك من الحالات والظروف التي أوضحها النظام بمنتهى الشفافية.

كذلك ركزت التعديلات على إنصاف العمالة المنزلية التي تحتل المرتبة الأولى في شكاوى العمال في معظم دول العالم، وتمت الاستعانة بأساليب التقنية الحديثة بالقدر الذي يسهم في إيجاد سوق عمل مرنة وشفافة وجاذبة، عبر تقديم خدمات نوعية في تنظيم جميع مراحل عملية الاستقدام منذ استخراج التأشيرات والتعاقد والدفع الإلكتروني، وحوكمة وتنظيم آلية التعاقد والتوظيف. ليس ذلك فحسب بل إن زيادة الشفافية شملت أيضا الإجراءات التي تتم في الدول التي ترسل العمالة المنزلية للمملكة لضمان عدم تعرض تلك العمالة للاستغلال في أي من مراحل إكمال العملية التعاقدية. وكل تلك الإجراءات يمكن أن تتم بمنتهى السهولة واليسر، عبر وسائط رقمية حديثة.

أما الجانب الذي كان أكثر لفتًا للأنظار فهو الأسلوب الراقي الذي تعاملت به المملكة خلال انتشار فيروس كورونا وما زالت تتبعه حتى الآن بتقديم الرعاية الصحية اللازمة لجميع المرضى، دون تمييز بين مواطن ومقيم، تنفيذًا لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز حفظه الله - الذي قال بمنتهى الوضوح (الإنسان أولاً)، وتلك الكلمات القليلة في عددها والكثيرة في معانيها تعني المواطن والمقيم وحتى المخالف للإجراءات، وفي ذلك تطبيق عملي لتعاليم الإسلام الرحيمة ونظرته المتميزة للعناية بالنفس البشرية. وبذلك سطرت بلاد الحرمين الشريفين فصولًا رائعة في دفتر الإنسانية، وتفوقت على كثير من دول العالم التي تتشدق بحقوق الإنسان.

تلك الإجراءات المتواصلة انعكست في التقييم الرفيع الذي نالته المملكة بانتخابها عضوًا في مجلس إدارة المنظمة الدولية، بعد أن كانت عضوًا مناوبًا خلال الدورة المنقضية التي امتدت خلال الفترة من 2017 إلى 2020، تم تمديدها استثنائيًّا لسنة إضافية بسبب ظروف جائحة كورونا، وهو ما يضع على المملكة مسؤولية كبيرة، ليس فقط لمواصلة إصلاح بيئة العمل داخلها، بل لحث بقية دول العالم وتشجيعها على أن تسير في ذات الطريق، وهذا هو دور المملكة دائمًا، قائدة ورائدة.