يندر عبر التاريخ أو قُلْ: ينعدم أن تجد توجها دينيًا ناجحًا يكون له القبول في بقعة من الأرض إلا ويظهر من داخله توجهات تنتحل اسمه وهي في حقيقتها تُعارِضه كُلِّيًا أو جُزْئيًا؛ هذه ظاهرة تاريخية ليست خاصة بالأديان؛ بل تدخل في الأفكار والدول والظواهر الاجتماعية، وهي خلاصة مفهوم الفيلسوف الألماني هيجل للجدلية، وهي انقلاب النقيض على نقيضه؛ وحديثنا اليوم عن الفكر الديني، حيث نجد أن الفكرة حينما تنتشر يظهر من داخلها نقيضها المنتسب لها؛ فرسالة موسى عليه السلام الداعية لإخلاص التوحيد لله تعالى ونبذ عبادة الطواغيت من البشر والأوثان، ظهرت بين أهلها وفي وقت مبكر جدًا -ولَمَّا يزل نبي الله موسى حيًا- الوثنيةُ السامرية والتي رغم انتهائها واقعيًا بسرعة بالقوة الرسالية لموسى عليه السلام إلا أنها بقيت في وجدان بني إسرائيل، وشَكَّلت الكثير من طبائعهم المتوارثة، كما قال تعالى: «قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم».

ورسالة عيسى عليه السلام هي أيضا لم تكد تنتشر حتى ظهر من النصارى أنفسهم من يدعون إلى أفكار مناقضة لما جاء به المسيح عيسى بن مريم من التوحيد والسلام ورفع الحرج؛ بل غلب أمر هذه الأفكار المناقضة حتى أصبحت المسيحية هي التثليث بدل التوحيد، والحرب بدل السلم، والرهبانية بدل رفع الحرج، ومن خالف هذه المبتدعات فهو المهرطق «كافر» الذي يسفك دمه فورًا.

وجاء الإسلام بالتوحيد والعدل والجماعة واتباع النصوص ونبذ الخرافة، فلم يكد ينتشر حتى ظهر مِنْ داخله مَنْ يظهرون به على العكس مما جاء به، مِن نشر الشرك وتسويغ الظلم والخروج عن الجماعة والتعلق بالخرافات والمخاريق، بدءًا بما جرى من الخوارج والمتشيعة في عصر علي رضي الله عنه، وقرنًا فقرنًا حتى أصبحت الصورة الخرافية الشركية هي الإسلام الذي يتوارثه الناس.

هذه أمثلة من أعظم الدعوات في التاريخ البشري؛ وليست الدعوة السلفية بخارجةٍ عن هذه القاعدة، فقد ظهرت بقوة على يد الدولة السعودية الأولى، وكانت قائمة على تنقية الإسلام مما شَابَهُ عبر القرون من أوضار التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، والعودة به إلى ما كان عليه زمن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم، مِن مصدرية الوحي في العلم والاتباع، ومصدرية الصحابة رضي الله عنهم في الفهم، ونتج عن هذه الدعوة أعظم إنجاز حققه المسلمون منذ ألف عام وأكثر، وهو قيام دولة قَلَّ نظيرُها في التاريخ الإسلامي تقوم على العصبية للدين والمنهج السلفي.

والحقيقة أن ارتباط الدعوة بالدولة أحد العوامل المهمة التي حمت السلفية قرنين من الزمان من أن يتخللها الانتقاض من داخلها كما حدث لسائر الدعوات، وظلت محاولات تشويهها تأتي إليها من خارجها، ولم تزدها تلك الدعوات المفترية إلا قوة وانتشارًا، ومن خلال هذا الانتشار الذي امتد بعيدًا عن رعاية الدولة الأم، ظهر من بعض المتأثرين جُزئيًا بالخطاب السلفي ومن بعض مُدَّعي الانتساب إليه شيء من تلك الأفكار التي أُريد لها أن تخترق السلفية من داخلها حتى تنمحي تمامًا.

وأبرز هذه الأفكار فكرة التكفير، وهي فكرة لها أصل في الدعوة السلفية لأن لها أصلا في دين الإسلام كما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وكما جاء به الأنبياء من قبله قال الله تعالى «لُعِنَ الَّذينَ كَفَروا مِن بَني إِسرائيلَ عَلى لِسانِ داوودَ وَعيسَى ابنِ مَريَمَ ذلِكَ بِما عَصَوا وَكانوا يَعتَدونَ»، وقال تعالى: «وَمَن يَكفُر بِالإيمانِ فَقَد حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخاسِرينَ».

فهو حكم موجود في الإسلام وفي الديانات قبله، لكنه حُكم يظهر بقوة في الخطاب الشرعي بداية دعوات الأنبياء ومن على نهجهم من المصلحين، للزومه لتمييز الدعوة وتمحيص المدعوين عَن كُلِّ ما يشوب التوحيد الذي هو لُبُّ دعوة الرسل وخيار المصلحين من شوائب الشرك الظاهر والخفي والذرائع الموصلة لكل منهما، وحين تستقر الدعوة يَضعف الحديث عن التكفير ويتكثف الحديث عن الإيمان وأركانه ودعائمه من العبادات والأخلاق والترغيب والترهيب ونظام الأمة؛ إلَّا أن بعض من لم يشهد نشأة الدعوة، ويتعرف على مسار الخطاب الدعوي وعنايته بالمرحلة، تَهُزُّه كثافة خطاب التكفير في النصوص، وتستولي على وجدانه، فيُنَزِّلُ هذا الخطاب في غير محله ويُطَبِّقُه على غير المستحقين له فتنشأ هناك تلك الفتنة؛ وهي أن يتحول التكفير من حُكْمٍ شرعيٍ إلى فتنة.

وقد حدث ذلك كما يعلم الجميع في صدر الإسلام إبَّان خلافة علي رضي الله عنه، حيث ظهر الخوارجُ المُكَفِّرَة؛ وهم أفناء من الأعراب الذين قرأوا كتاب الله تعالى، واجتذبتهم آيات الوعيد، ولم تَرْقَ أفهامُهم إلى التوفيق بينها وبين آيات الرحمة والمغفرة والوعد، ولم يتأملوا في سياق التشريع ليعوا مراد الله مِن وعيده ووعده، واقتصروا على أفهامهم، ولم يعرضوا ما عندهم على فهم علماء الصحابة الذين كانوا وافرين آنذاك، فكان ظهورهم هو النواة الأولى لاختراق المسلمين والسبب الأول فيما حدث بعدهم من تشويهات لرسالة المحجة البيضاء.

وكانت الدعوة السلفية التي رعتها وقامت بها الدولة السعودية الأولى هي عين دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك بَدَأَت بالتركيز على تمحيض العبادة لله تعالى، وأَكْثَرَتْ من ذكر نواقض الإسلام، وموجباتِه، وعلامات الكفر، ومسبِّبَاتِه، والشرك وذرائعه المُوصلة إليه، ووصف شرك الجاهلية، وإظهار أوجه الشبه بينه وبين ما يقع الناس فيه من بِدَعٍ عَمَّ شَرُّها العالمَ الإسلامي بأسره؛ وكل ذلك كان لأن إصلاح المجتمع يقتضي مثل هذا الخطاب لانغماس الناس في المُبْتَدَعَات المخرجة من الملة، والخُرافات الشركية التي أصبحت تأسرهم بالخوف منها والرجاء لها حتى في العواصم العلمية التاريخية كدمشق والقاهرة وصنعاء والقيروان وفاس.

وبالفعل كان هذا الخطاب في ذلك الوقت كالدواء الذي يقع على الجُرْح، لذلك كان نفعه سريعًا، فانتشرت الدعوة في بضع سنوات، لا في نجد حيث نشأتُها وحسب؛ بل في أصقاع بعيدة لم يكن أحد يتصور أن الدعوة ستصل إليها في ذلك الزمن اليسير، اليمن والهند وبنجلادش وغرب إفريقيا والمغرب.

وحين استقرت الدعوة استقر معها الخطاب على ما يصلح الناس في عقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وأقضيتها وتربية نشئهم، وخف الحديث عن التكفير، جريًا على سُنَّة الرسالة النبوية الأولى.

وكانت رعايةُ الدولة للدعوة، وإجلالُ طلبة العلم للعلماء ورجوعهُم إليهم في كل ما يُشْكِل من أمور العقيدة والفقه يَحُول دون أيِّ فهم خاطئ لخطاب الدعوة السلفية، كما يَحُول دون أي استغلال للعقليات الصغيرة أو الجاهلة من قِبَلِ الأطراف المغرضة؛ لكن بعض البلاد التي استفادت من المد السلفي المبارك لم تكن لديها تلك الظروف العلمية والسياسية التي حافظت على نقاء الدعوة داخل السعودية، ووُجِدَ فيها شباب ليس لديهم توقير لأهل العلم الراسخين لأسباب منها التشويه السياسي، ولعلها صادفت أيضًا استغلالاً استخباراتيًا، فظهرت فكرة التكفير، وكانت أول ما ظهرت في مصر، وتفاقمت ومن ثَمَّ تم تصديرٌها للسعودية، ولغيرها من الأقطار الإسلامية؛ بل وغير الإسلامية؛ وليس المراد هنا استقصاء انتشارها، وإنما بيان أن هذه الفكرة أدى ظهورها في العصر الحديث إلى المظاهر نفسها التي نتجت عنها عند ظهورها في عصر علي بن أبي طالب من تشويه صورة الإسلام، وانبثاق مذاهب وتيارات نقيضة، وتثبيط حركة انتشار الدين في الأقطار الأخرى، وإضعاف حركة التدين في المجتمع، وفشو التغريب الثقافي، لتضرب هذه الفكرة ومن يُسَوِّق لها الدين الإسلامي ودولتَه في كلا العصرين، عصرِ علي الراشدي وعصرِ السعودية الزاهر.

ربما هناك فارق يحسن التنويه إليه، وهو أن فكرة التكفير في عصر علي رضي الله عنه وفي عصر دولة بني أمية، وقف المسلمون قادةً وعلماء ومجتمعًا في مواجهتها حتى ضعفت وغادرت المشرق الإسلامي لتنشأ من جديد في المغرب بعيدًا عن العلماء والدولة الراعية لهم، ونتج عنهم في المغرب شرور من هذا الجنس.

أما في عصرنا الحاضر فقد وقف كثير من علماء المسلمين ودولهم ومؤسساتهم العلمية في وجه الدعوة السلفية وعلمائها ودولتها بِحُجَّة محاربة التكفير، وهم يعلمون براءة السلفية الحقة منه كما يعلمون براءة علي بن أبي طالب رضي الله عنه منه؛ لأن من أراد اتهام الدعوة السلفية ودولتِها بالتكفير لمجرد ظهور بعض دعاته في أفنائهم، فهو كمن يتهم عليًا والصحابة به لكون كبار الخوارج ظهروا بين ظهرانيهم وفي ولاية عليٍ ومن جيشِه.

ومن اتهم السلفية به اعتمادًا على نزع بعض الخطاب السلفي من سياقه التاريخي، فهو كمن ينزع الخطاب القرآني والنبوي من سياقه ويصفه بالتكفير، فإن الغلاة المُكَفِّرَة كما يستدلون بالخطاب السلفي يستدلون بالقرآن، والخوارج الأول كانوا أيضًا يستدلون بالقرآن.

والقصد أن خروج نقيض لدعوةً ما من داخلها أمر من السنن الكونية، ولو تتبعنا جميع الاتجاهات الفكرية في الإسلام لوجدنا جميعَها قد بُليت بهذا الداء وظهر فيها من داخلها ما ينقض وجودها، والفرق بينها وبين السلفية، أن السلفية بقيت متميزة محافظة على حقيقتها، وأما نقائضها التي خرجت من داخلها، فأصبحت شظايا متنحية عنها؛ بعكس الاتجاهات الأخرى، فإن نقائضها طغت عليها حتي أخفتها أو كادت؛ فالصوفية التي بدأت عبارةً عن حالة من الزهد مع المحافظة على أصل الدين والتوحيد اختفت، ولم يعد باقيًا، سوى التصوف الخرافي والتصوف المغموس بالبدع، وأما ما يُسمى اليوم بالتصوف المعتدل، فاعتداله المزعوم إنما هو أَثارَة من علم وعقل استفادتها تلك الطرق من ظهور السلفية في القرن الثامن والثالث عشر، أو من تَقِيَّة أهل البدع أمام موجة عودة الأمة لمنهج السلف وانحسار البدعة في العصر الحديث؛ فنظر المبتدعون للأمة الإسلامية كحلبة صراع وظنوا أنهم بفرية نسبة التكفير إلى السلفية سوف يُلقُوْنَها خارج الحبال والله ناصر المتبعين.