في أحد الحوارات المعتادة عن السلفية مع بعض الإخوة من كبار المثقفين، كتب لي أحدهم وهو من الذين لهم سابقة في الخير والدعوة:

«أخي الحبيب د. محمد حفظك الله ورعاك: لا أظنه يغيب عن علمك أنني من أكثر المدافعين عن السلفية الحقة، ومع ذلك فإنني أعتقد أن سلفيتنا المتأخرة ضيقت واسعًا واحتكرت ما تعتقد هي أنه الحقيقة المطلقة، خاصة في كثير من مسائل الاعتقاد، مع أن الجميع مجتهدون وكلهم مصيبون ومخطئون، وما لم نصحح هذا الجانب فلن يستمع لنا إلا القلة وسنستعدي كثيرين وللأسف الشديد».

وقد صاغ الأخ هذا الإشكال بطريقة لطيفة استحسنتُ أن يكون ردي عليها في مقال وليس كلمة عابرة محدودة الفائدة، إذ مضمون ما كتب، من الأسئلة الملحة والتي تُطرح من زمن ليس قريبًا، ويزيد إلحاحها كلما واجه السلفيون تحديًا حضاريًا جديدًا.

هناك كثيرون مثل الأخ الكريم دافعوا عن جانب واحد ومهم من جوانب السلفية، فيما هم يقفون في صف المناوئين لها من جوانب أُخَر، فيسعون في إحراقها متوهمين أنهم ينصرونها، ومدافعة الأخ وكثيرون ممن يرون رأيه إنما هي عن توحيد الألوهية في مواجهة أهل الخرافات الذين يدعون مع الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم، وفي مواجهة الكُهان والمشعوذين، ويُدافعون أيضًا عن توحيد الربوبية في مواجهة الوثنيين والملحدين؛ وهذان القسمان من أقسام التوحيد هما أعظم ما جاءت به الرسل وهما حق الله تعالى على عبيده، لكنهما ليسا كل الإسلام وليسا كل ما يختص به أتباع المنهج السلفي، وكثير ممن يصفون أنفسهم بالعقلانيين ممن لا ينتسبون للسلفية وربما يُعادونها من الليبراليين والليبروإسلاميين يشاركون السلفيين القناعة بإفراد الله تعالى بالعبادة ونبذ الخرافة، من منطلق عقلاني محض وليس من منطلق شرعي وإن ساقوا له ما يخدمهم من الأدلة الشرعية أحيانًا؛ إذن فمشاركتهم في الدفاع عن هذا الجانب محمودة وهي مما اختص به السلفيون عن سائر المدارس الإسلامية؛ بل إن أوائل دعاة المدرسة الإسلامية العقلية المعاصرة كالشيخ محمد عبده وتلاميذه ما هم إلا نتاج تأثر بالدعوة السلفية المعاصرة، ومع ذلك لم يصبحوا سلفيين وإن كانوا من هذه الجهة قريبين من السلفية ونحسب لهم ذلك.

لكن السلفية منهج متكامل في فهم الإسلام من حيث التصور للخالق وللكون والحياة والعلاقة مع الله تعالى والعلاقة مع عباده ومصادر التلقي وأصول الفهم وطرق الاستنباط والاستدلال، فمن وافق منهج السلف في كل ذلك فهو السلفي، ومن خالفهم في شيء من ذلك مما ليس من أصول الاعتقاد فلديه من السلفية بقدر ما وافق فيه السلف.

السلفية هي الإسلام الحق كما جاء به الرسول وكما فهمه وبَلَّغَه عنه إلينا صحابته الكرام وتابِعوهم، لكن ليس كلُ المسلمين سلفيين، لأنه ليس كل المسلمين يتبعون منهج السلف في عقائدهم وأخلاقهم وعباداتهم ومعاملاتهم، لذلك كان لقب السلفية صادقًا على بعض المسلمين ممن قدوتهم الصحابةُ والتابعون في فهم الإسلام وتطبيقه، كما أن الأشعرية لقب لمن يقلدون الأشعريَّ في عقيدته، والصوفية لقب لمن يقلدون مشايخ الطُّرُق في عقيدتهم وعباداتهم وأخلاقهم.

ومما تبتلى به السلفية اليوم من يحسبون أنفسهم على السلفية لمجرد موافقتهم لها في التوحيد مع مخالفتهم لها في قضايا شديدة الأهمية، ومنها إنكار خبر الواحد، فمن أنكره فليس سلفيًا، ولم يُمكن أن يتراخي السلفيون مع قوله، لأنه خالف السلف رضي الله عنهم الذين قبلوا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله وهو واحد ليس لشيء إلا لأنهم علموا أنه صادق، فلم يكن ليصدُقَهم في أمور دنياهم، ويكذب على ربهم، وقد آمنوا به قبل أن يروا المعجزات، فلما جاءتهم زادتهم إيمانًا وتثبيتًا، وكانت الأحاديث تأتي السلف عن رسول الله في حياته وبعد مماته آحادًا ولم يكن أحد منهم يشترط فيها التواتر كي يعمل بها، وإنما يبادرون إلى العمل بها فور ما يتحقق لهم صِدق ناقلها، وبقي الأمر كذلك في التابعين وتابعيهم، ونشأ بينهم علم الجرح والتعديل لصيانة الأسانيد وحفظ سنة رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام.

ومنهم من لا يقبل خبر الواحد العدل الثبت إلا إذا وافق عقلَه أو هواه، وهؤلاء لا يُمكن أن يكونوا سلفيين أو يتراخى معهم السلفيون لأنهم جعلوا عقولهم أو أهواءهم حاكمة على الشريعة، مِثَال الأولين من ردوا أخبار الآحاد في نعيم القبر وعذابه وسؤال منكر ونكير، وأهوال يوم القيامة وبعض صفات الله تعالى، لأنها خالفت مقتضى عقولهم هم، مع أن السلف من الصحابة ومَن بعدهم رووا هذه الأخبار، وصدقوها ودعوا إليها.

ومثال الآخرين من خالفت بعض أخبار الآحاد أهواءهم فردوها بتأويلات شتى، كمن ردَّ أخبار لزوم الطاعة ووجوب الجماعة لمخالفتها هواه السياسي، ومن رد أحاديث تحريم المعازف وتصوير ذوات الأرواح لمخالفتها نزعته إلى الفن، ومن رد أحاديث النهي عن اختلاط الرجال بالنساء والسفر دون محرم لنزعته نحو الحرية والمساواه؛ فالسلفيون الذين يقفون دون أن يكون العقل حاكمًا على النصوص لا يتغاضون عمن يجعل الهوى هو الحاكم عليها، وقد قال تعالى: ﴿يا داوودُ إِنّا جَعَلناكَ خَليفَةً فِي الأَرضِ فَاحكُم بَينَ النّاسِ بِالحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الهَوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذينَ يَضِلّونَ عَن سَبيلِ اللَّهِ لَهُم عَذابٌ شَديدٌ بِما نَسوا يَومَ الحِسابِ﴾ [ص: 26].

فليس كل من دافع في مجال الاعتقاد يُعد مدافعًا عن السلفية؛ بل إن منكري السنة أو منكري الآحادية منها، أو من يتخيرون ما يوافق أهواءهم وعقولهم منها، لا يقلون خطرًا على السلفية من كثير ممن يخالفونها في بعض مسائل الاعتقاد؛ وأعجب ممن يدافع عن توحيد العبادة ثم يُحَكِّم هواه في أخبار الآحاد وهو يعلم أن ذلك خلل في الاستعباد لله، ولن يستقيم توحيد العبادة إلا بتمحيض الاستعباد؛ وهؤلاء سوى من ينكر الإجماع أو يسخر من تراث الأمة الفقهي أو الحديثي ويرميه بالنقائص أو من يُقَدِّم الحرية على الشريعة.

أما قول الأخ بأن السلفية ضيقت واسعًا فيما اعْتَقَدَتْ أنه الحق لاسيما في مسائل الاعتقاد !

فالجواب: أن الأمرَ في الاعتقادات موكول إلى النصوص فهي التي تُوَسِّع وهي التي تُضَيِّق، فكل اعتقاد يخالف النص المُحكَم لا يمكن قبوله ولا يقبل السلفيون تأويله، أو العمل به على غير ما دل عليه ظاهره، أما النصوص المجملة فإنه لا وُجود لها في مسائل الاعتقاد، إلا نادرًا، وما وُجد منها فهو إما مُعَارَض بنصوصٍ محكمة كقوله تعالى (وهو معكم أينما كنتم) يستدل به بعض المبتدعة على معية الله تعالى للعباد بذاته، وهو استدلال ضال لأنه مُعَارَض بالنصوص المحكمة الدالة على أن الله تعالى على العرش (ثم استوى على العرش) (الرحمن على العرش استوى) وإما نصوص يأتيها الإجمال من بعض رواياتها، فإذا جُمِعَت طُرُقُها تبينت دلالتها الصحيحة، وما كان من هذا النوع من الأدلة فإن السلفيين يعذرون في الخلاف في دلالتها، ومثالها حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي ليدعو له بالشفاء، حيث يستدل به البعض على جواز التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، وهو رواية عند الحنابلة.

والسلفيون يعتقدون أنهم في مسائل الاعتقاد يمتلكون الحقيقة المطلقة هذا حق، ويعتقدون أن كل مخالفيهم في مسائل الاعتقاد أهل بدعة فيما خالفوهم فيه؛ ولو اعتقد السلفية خلاف هذا لضلوا، لأنهم يلزمهم من ذلك أن يعتقدوا أن أصول الدين ليست ثابتة، بل متغيرة، والحق فيها قد يكون معك وقد يكون مع غيرك، مثلُها مثل المسائل الخلافية في الفروع، كالوضوء من أكل لحوم الإبل، من العلماء من يقول بوجوبه ومنهم من يراه سنَّة، وكلا الفريقين يُرَجِّح مذهبه، مع قوله باحتمال خطئه وصواب مخالفه؛ فمن يعتقد أن مسائل العقيدة محلَّ اجتهاد وأن الحق فيها ليس مجزومًا به هو مُضَيِّع لاعتقاده، مفرط في دينه متزعزع في عقيدته.

ولا أعلم كيف يُطلب من السلفيين وحدهم أن لا يروا اليقين في اعتقادهم مع أن جميع الفرق المخالفة للسلفية تقطع بأن ما هي عليه هو الحق، ويُكَفِّرون مخالفيهم في بعض المسائل ويستحلون دماءهم، كما كفَّر المعتزلةُ أحمد بن حنبل وأفتوا بقتله، وكفروا محمد بن نصر وقتلوه وصلبوه لأنه قال القرآن كلام الله؛ وكفر الأشاعرةُ ابنَ تيمية وأفتوا بقتله لأنه قال بأن الله مستوٍ على عرشه، وأفتى علماء الصوفية بقتال الدولة السعودية الأولى لقولهم إن من دعا صاحب قبر أو وثن من دون الله فقد أشرك، فلماذا يُطلب من السلفيين وحدهم أن يلينوا في عقائدهم وفقههم !

وأما قول الأخ: «وما لم نصحح هذا الجانب فلن يستمع لنا إلا القلة وسنستعدي كثيرين وللأسف الشديد».

فإني أفهم عبارته هكذا: وما لم تتضعضع قناعتنا في عقيدتنا، وما لم نرَ احتمالية خطئنا فيها واردة، وما لم نُضَيع أصول فقهنا، فلن يستمع إلينا أحد..

هذا ما أفهمه وهو كلام غير صحيح لأننا أهل دعوة ومنهج قويم، والدعوة السلفية ليست نظرية يتطرق إليها الاحتمال ولا فلسفة ننافس على نشرها بجعلها تتوافق مع الأهواء، وإنما تحتاج دعوتنا إلى صدق حاملها وقناعته بها وإن لم يبق عليها إلا هو وحده؛ والرسول صلى الله عليه وسلم قَدَّم الإسلام في عالم مغاير لما دعا به تمامًا، ونهاه الله عن تقديم أي تنازل في الاعتقاد أو الأحكام وقال له: (واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) ثم كانت النتيجة أن خفق المَشْرقان بدعوته عليه الصلاة والسلام.

وقام الإمامان محمد بن سعود ومحمد بن عبدالوهاب بتجديد دعوته التي حوربت دوليًا وعلميًا، ثم كانت النتيجة أنها اليوم الدعوة الإسلامية الأولى حتى في أوروبا وأمريكا، وما الحرب العالمية عليها إلا من أجل هذا التمكن، وهي اليوم في ظل الحرب عليها في مرحلة تمحيص فمن ثبت فلنفسه، ومن تضعضع فلن يضر الله شيئًا والله متم نوره {فإذا جاء أمر الله قُضي بالحق وخسر هنالك المبطلون}.