هل أرادت الولايات المتحدة فعلاً إنقاذ المشروع الذي بنته خلال عشرين عاماً في أفغانستان، وهل حاولت ولم تنجح في إقناع «طالبان» بالحفاظ على ما تعتبره «مكاسب» تحققت لأفغانستان، ولماذا تركت الحكومة والجيش الأفغانيين ينهاران أمام الزحف «الطالباني»، وكيف تفسر إدارة جو بايدن عدم أخذها بتحذيرات العسكريين والاستخباراتيين في الشهور الأخيرة؟ هذه عينة من غوامض بدأ بعض منها يتكشف، وسيمضي وقت قبل أن يعرف معظم خفايا الحدث الأفغاني وأسراره. لكن تحليل النتائج الوشيكة دل حتى الآن على أن كل ما بني عسكرياً وسياسياً ظل بلا قيمة، أو أشبه بوهم، ما لم تكن القوات الأمريكية حاضرة لحراسته. ثمة تشابهات مع سيناريو العراق، مع أن الانسحاب بدا منظماً ولم يترك فراغاً في السلطة، إلا أن الانهيار حصل لاحقاً بظهور تنظيم «داعش» وانتشاره، ليتبين أن ذلك الانسحاب كان عملياً تسليماً وتسلماً غير معلنين بين الأمريكيين والإيرانيين، كما حصل، أخيراً، بين الأمريكيين و»طالبان».

في الحالين كان الجانب الأمريكي صاحب القرار في البداية وليس في النهاية. لم يقل عن الانسحاب من العراق أنه هزيمة بل إنه حقق أهدافه بإسقاط نظام دكتاتوري وإقامة «نظام ديمقراطي» لم يبق منه سوى الشكل لكنه مشوه بالميليشيات واستشراء الفساد، وبمعالم تشظ سياسي واجتماعي متخبطة بين نفوذ إيراني يريد موالوه أن يتوسع ويتعمق ونفوذ أمريكي يخشى مريدوه أن ينكفئ ويتلاشى. الآن يقال إن الولايات المتحدة حصدت هزيمة وفشلاً في أفغانستان، على الرغم مما تكلفته، وترد الإدارة بأنها حققت أهدافها خلال عامين إذ ضربت تنظيم «القاعدة» وأضعفته وأسقطت نظام «طالبان» الاستبدادي، وما كان لها أن تبقى بعد ذلك لتصبح طرفاً في ما سمته «حرباً أهلية». والواقع أنها كانت مجبرة على البقاء لأن النظام الذي أقامته بدأ ضعيفاً وظل مفككاً واستمر غارقاً في الفساد (حتى أن ظاهرة الجنود والموظفين «الفلكيين» كانت مشتركة مع العراق)، ومع أن شخصيات بشتونية تصدرته إلا أنها لم تشكل تمثيلاً أو حالاً مقنعين كبديل من «طالبان» المسيطرة على زعامة القبيلة.

أياً ما تكون حجج الرئيس الأمريكي للدفاع عن خياره من أفغانستان فإن العالم لم يلمه على الانسحاب في حد ذاته بل على الطريقة والنتائج التي أعادت الأفغان تحت رحمة نظام خبروا بطشه وقسوته وعقم سياساته وخياراته. ومن البديهي أن يسأله قادة الدول الـ7، حين يلتقونه افتراضياً هذا الأسبوع، كذلك الحلفاء والأصدقاء، عن أسباب الفوضى التي شاعت، ليس فقط مع وصول «طالبان» إلى كابول بل قبل ذلك في اجتياحها للولايات. وإذا كانت لديه إجابات جاهزة بأن «انسحاباً أفضل» لم يكن ممكناً، فإنه لن يقر بأن «طالبان» هي التي رسمت سيناريو أحداث الشهور الأخيرة، وأنها تصرفت كما فعل الفيتناميون قبلها، إذ أرادت أن تسجل انتصارها وإن طلبت من أنصارها «عدم الاحتفال» به. فالمهم عنده أنها لم تتعرض للقوات المنسحبة، لكن مباغتتها لكابول هي التي صنعت الفارق متسببة بالبلبلة في عمليات الإجلاء، وبالتالي بأشعار الولايات المتحدة بشيء من الهزيمة. لكن أمريكا تبقى قادرة على تجاوز هزيمتها، فهل تقدر «طالبان» على جعل «انتصارها» انتصاراً لأفغانستان؟

أياً ما تكون درجة المراجعة والتغيير التي بلغتها «طالبان» في استيعابها دروس العقدين السابقين فإن الاستيلاء على السلطة ظل هدفها الرئيسي، كما كان منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وتعتبر أنها اكتسبت الآن مزيداً من «الشرعية» لأنها قاومت الاحتلال السوفياتي وأسهمت في طرده، ثم الاحتلال الأمريكي وهزمته. خلافاً لـ1996، لا تريد «طالبان» هذه المرة أن تحكم فحسب بل أن تبني دولتها أو «إمارتها»، فهل تعرف كيف؟ الامتحان الأساسي في الداخل، وهو المحك والحكم في ما إذا كان مفهومهاً للحكم تغير أم لا. كان رفضها التفاوض المسبق على المرحلة الانتقالية مؤشراً سلبياً، ولو فاوضت بجدية لكانت حصلت مسبقاً على معظم ما تريده من دون أن تثير مخاوف مواطنيها. أرادت التفاوض من موقع قوة، وهو ما يفعله حالياً رجلها الثاني (المرشح للرئاسة) عبد الغني برادر مع الأطراف الأخرى من أجل تشكيل حكومة انتقالية، ولعله لمس سريعاً أن عوامل قوة «طالبان» باتت موضع اختبار إزاء مؤشرات احتجاج بدأت تظهر تباعاً.

ليست المرة الأولى التي يتخذ فيها الإسلاميون من محاربة أمريكا وسيلة للوصول الى السلطة، وحين يصلون إليها يحتاجون إلى أمريكا لكي ينجحوا في الحكم. حاول النموذج الإيراني إثبات العكس، وأعتقد أنه نجح، لكن معضلاته الراهنة واشتغاله بالعداء لأمريكا طوال أربعة عقود أسهمت في دوام النظام ولم تحقق استقراراً لإيران. ستحتاج «طالبان» إلى أصول الدولة الأفغانية شبه المجمدة في البنك المركزي الأمريكي، وإلى مساعدات خارجية غربية تتطلب تغييراً واضحاً في سلوكها، أي أنها تحتاج إلى اعتراف أمريكي بحكمها، ولن تحصل عليه إلا بالمعايير الأمريكية. يمكنها التعويل على مساعدات من دول الجوار، لكن حتى هذه ستكون محسوبة بدقة ومشروطة.

تبدو «طالبان» متعجلة الآن في إظهار ملامح التغيير الذي طرأ على فكرها، ولن تفلح إلا إذا صدقت، فحتى الأمم المتحدة شبه المحايدة عموماً أشارت الى «معلومات مروعة» عن انتهاكات ارتكبتها الحركة وتطالبه بأفعال لا بمجرد أقوال أطلقها الناطق باسمها، ومما ورد فيها أن «طالبان» تسعى إلى علاقات جيدة مع كل الدول والحكومات. فلكي تنال اعترافاً ومساعدات عليها أولاً أن تلتزم تعهدها الموثق لواشنطن عدم توفير ملاذ للجماعات الإرهابية واحترام حقوق المرأة والأقليات، وأن تطمئن بكين بعدم التعامل مع مسلمي الإيغور، وموسكو بعدم إيواء متطرفي القوقاز، والهند بعدم دعم جماعات كشمير، وإسلام آباد بعدم تفعيل علاقتها بـ «طالبان باكستان»، وطهران بعدم تهميش الهزارة، كذلك دول الجوار الثلاث بعدم المس بحقوق الطاجيك والاوزبك والتركمان وغيرهم، إضافة طبعاً إلى طمأنة السعودية ودول الخليج إلى أن أفغانستان لن تكون مجدداً نقطة اجتذاب للجماعات المتطرفة... هذا يعني، عملياً، أن «طالبان» مرشحة لأن تخذل الإسلاميين الذين هللوا لانتصارها.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»