وأخيرا أدرجت مادة «التفكير الناقد» ضمن المواد المقررة في المدارس، بعد جهد شاق، ورغبة صادقة في تطوير المناهج الدراسية، بما يعمل على الارتقاء بمهارات الطلبة الفكرية مع تغليفها بغلاف من الوعي، يحميهم من الانجراف نحو منحدرات فكرية خطيرة، فيكونون إما أدوات بيد لصوص الفكر، بحيث يحركون حسب توجهات سارقي فكرهم، لتنفيذ أجنداتهم، أو يكونون موارد بشرية متدنية الإنتاجية بقدرات تنفيذية خالية من أي إبداع خلاق يرتقي بالمجتمع.

هذا المنهج الدراسي، الذي يستند على أساسات فلسفية تدرب العقل من خلال الأسئلة والتحليل والنقد، على الرغم من كل ما صاحبه من جدل بين مؤيد ومعارض، فإنه منهج يعزز القيم الوطنية والثقافية التي تعزز الحوار، ويبني جيلا خلاقا مثيرا للأسئلة، يعمل عقله بعمق وفق قيم فكرية عالمية مثل الوضوح والدقة والملاءمة والاتساع، بعيدا عن الإملاءات والتسليم والتبعية والانقياد. منهج دراسي راق، ولو لم يكن بناء لما اجتاز حاجز التدقيق والتمحيص، ليقر كحل لقصور عانته مناهجنا القديمة، ويعالج آثارها. لكن للأسف، فإن الصخب والجدل المعارض هذا المنهج يأتي ممن يخاف من طرح الأسئلة الكبرى، ويخشى على العقيدة من الفلسفة، ولمن غاب عنه أن الله يحب من يقرأ ويبحث، وأن الفلسفة إذا كانت مبنية على أساس قوي من عقيدة، فهي تعزز الإيمان بالله.

لو نحينا جانبا الصورة السلبية عن الانتقاد الهدام الذي لا يهدف إلا إلى إظهار التصيد، لإثبات صحة وجهة النظر الشخصية دون قبول نقاش قد يثبت صوابها أو خطأها، فإننا نجد في مادة «التفكير الناقد» مادة تهدف إلى توسيع المدارك بإكساب الطالب وجهات نظر متعددة، قد تصحح كثيرا من المفاهيم المغلوطة في الوقت الذي ترسخ فيه بموضوعية، بعيدة عن التعصب، مفاهيم أخرى تخدم الفرد والمجتمع. هذه المادة تساعد على إكساب الطالب مهارة التحليل الموضوعي، والتحقق من المغالطات، والتفريق بين المسلمات والنتائج، والعمل على الفصل والتفريق بين المعلومات ذات الصلة بموضوع محدد والمعلومات التي لا صلة لها بالموضوع نفسه، كما قال الفيلسوف جون ديوي عن جوهر «التفكير الناقد»: «إنه التأني في إصدار الأحكام إلى حين التحقق من الأمر».

إذا، فلا شك أن منهج «التفكير الناقد» من المواد المهمة التي تزايد الاهتمام بها في مجال التربية والتعليم بشكل عام، حيث إن هناك آلاف الدراسات والبحوث التي توصي بتعلم وتعليم التفكير، لأنه ضرورة يجب أن تأخذ حقها من اهتمام المنظومات التعليمية، خاصة في مجتمعنا نحن، نظرا لاحتياجنا له في هذا الوقت الذي نشهد فيه تحولات متسارعة في مجالات عدة، تحتاج منا إلى تهيئة العقول، وإعدادها لفهم أهمية هذه التحولات وإيجابيتها، وبالتالي مسايرة متغيراتها بتنمية مهارات التفكير العليا والتفكير النقدي وتفكير الابتكار والإبداع لدى طلبة التعليم العام من أجل الإسهام في النماء.

ولعلي لا أبالغ إن قلت إن إدخال مادة «التفكير الناقد» في التعليم المتوسط والثانوي يعد من أهم قرارات وزارة التعليم أخيرا، حيث إن إدراج هذه المادة ضمن المقررات الدراسية يساعد شبابنا على التفكير السليم، والبحث عن أجوبة نقية من شوائب الوهم والانحراف. كما أنها تساعدهم أيضا على حل المشكلات والمسائل المعقدة التي يتعرضون لها في حياتهم العملية من خلال إكسابهم مهارات التحليل والسؤال، وتحريك راكد الفكر في بحيرات العقول الواسعة من خلال التخلي عن النهج التقليدي المتبع في التعليم بالتلقين الذي ملأ عقولا كثيرة بالحشو غير الفعال، مما غيب عنهم مهارات التحليل والإبداع والحوار والتقبل، وعزز لديهم توحد التفكير ومركزيته، وهذا يبين أهمية تدريس هذه المادة، لتدريب العقول على اتخاذ القرارات الصحيحة، بناء على الحوار وبعيدا عن الانقياد العاطفي والتطرف في الآراء والأحكام.

بالإضافة إلى ذلك، يسهم تدريس هذه المادة في تعزيز الملكة النقدية عند شبابنا، مما يصنع لديهم حصانة فكرية وذهنية تمنعهم من الانسياق خلف الأفكار المنحرفة والتوجهات الخطيرة، خاصة في ظل انتشار الثورة الرقمية والتكنولوجية التي أصبح اختراق العقول من خلالها أسهل ما يكون ما لم تكن هناك حصانة فكرية تواجه خطرها.

وبما أننا نتحرك اليوم وفق رؤية واعية ومستقبلية، لتجاوز السائد والنمطي، وبناء ‏النموذج الخاص الجديد في التعليم، بصفته الركن الأبرز في كل معادلات التنمية ‏الوطنية، فلا بد من تضافر الجهود بين الأسرة والمدرسة عمليا، وليس نظريا، من أجل تحقيق الهدف المرجو .

وحتى يتم تحقيق المستهدفات المأمولة، كلي أمل أن توكل وزارة التعليم تدريس مادة ‏«التفكير الناقد» لمن لديهم ملكات التفكير والنقد والاستنباط، ولمن يملكون الوعي الذاتي ‏والتركيز على المستقبل، والانفتاح على الآراء المختلفة بصدر رحب، ودقة الملاحظة ‏لما يدور حولهم من مواقف وردود أفعال. فلو تحقق ذلك، فسيكون لدينا، بعد فترة ‏قصيرة، جيل واعٍ قادر على استقصاء الحقائق وتصنيفها، وصياغة الأفكار وتوصيلها ‏للآخرين بوضوح عبر قنوات اتصال سليمة، ومن ثم تحديد الاستنتاج الأنسب ‏والأصح لحل أي مشكلة بشكل موزون وبعيد عن العاطفة.