«هكذا إذا توجهت الهمم» هذا عنوان لمقال كتبه قبل ما يقارب المائة عام شكيب أرسلان وضمنه كتابه الذي نشرته مجلة المنار المصرية في حينها، وكان من أشهر الكتب في عصره، وهو كتاب «لماذا يتأخر المسلمون ولماذا يتقدم غيرهم»، يُعتبر هذا المقال من الشهادات العربية المتقدمة جدًا للمملكة وللملك عبدالعزيز، ولم يكن شهادة وحس، بل يقدم كاتبه رسالة بأن السعودية أعطت المسلمين درسًا بأن النهوض والتقدم أمران ممكنان بعد أن كان المسلمون في أشد اليأس منهما. يمضي الكاتب صدرًا من المقال يؤكد أن البلاد المقدسة ظلت قرونًا طويلة وهي على أعظم حال من الفساد حتى وصل المسلمون إلى اعتبار إصلاحها أمرًا مستحيلًا ميؤوسًا منه، وصار النصارى يُعَيِّرون المسلمين بأنهم غير قابلين للنهضة، لأنهم لو كانوا كذلك لما كانت أقدس مشاعر دينهم في الأرض بهذا الدنس، إلى أن قال شكيب «إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبدالعزيز بن سعود منذ بضع عشرة سنة، فلم تمض سنة واحدة حتَّى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضَّواري في كلِّ يومٍ بل في كلِّ ساعة إلى مهد أمان، وقرارة اطمئنان، ينام فيها الأنام بملء الأجفان، ولا يخشون سطوة عادٍ، ولا غارة حاضرٍ ولا باد، وكأنَّ أولئك الأعراب الذين روَّعوا الحجيج مدَّة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدُّنيا، وكأن هاتيك الذئاب الطلس تحوَّلت إلى حملان، فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب، ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكَّة إلى المدينة، أو من المدينة إلى مكة، أو إلى أيَّة جهة من المملكة السعودية وهي حاملة الذهب والألماس والياقوت والزمرد، ما تجرَّأ أحدٌ أن يسألها عمَّا معها» ثم يمضي أمير البيان في تفصيل تبدل الأحوال في الحجاز بعد بضعة ليال من حكم الملك عبدالعزيز «ما من يوم إلا وتُحمل فيه إلى دوائر الشرطة لقَط متعدِّدة، ويؤتى بضوال فقدها أصحابها في الطُّرق، وأكثر من يأتي بها الأعراب أنفسهم، خدمة للأمن العام، وإبعادًا للشّبهة عنهم وعن ذويهم، فسبحان محوِّل الأحوال ومقلِّب القلوب». يؤكد أرسلان وهو الرحال الذي جاب عددًا من أقطار الأرض آنذاك على الرواحل والبواخر أن السعودية هي أكثر بلاد الأرض أمنًا فيقول مقسمًا بالله «والله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز لا في الشَّرق ولا في الغرب، ولا في أوروبا ولا في أمريكا، وقد تمنَّى المستر كراين الأمريكي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز واليمن. وكلُّ من سكن أوروبا وعرف الحجاز في هذه الأيام يحكم بأنَّ الأمنة على الأرواح والأعراض والأموال في البِقاع المقدَّسة هي أكمل وأشمل وأوثق أوتادًا وأشد أطنابًا منها في الممالك الأوروبيَّة والأمريكيَّة، فأين أولئك الذين كانوا يقولون: إنَّ الأعراب لا يقدر على ضبطها إنسان؟!». أتذكر وأنا أنقل هذه الكلمات ما حصلت عليه السعودية قبل أشهر من ترتيبها الأولى بين دول العشرين في الأمن، فالحمد لله الذي لم يغير حالنا إلا لما هو أحسن. ثم يسترجع شكيب أرسلان ذكرى أولئك الذين كانوا يكتبون عن اليأس من الإصلاح في الجزيزة العربية، وأن البدو لا يمكن استصلاحهم، لِيَرُدَّ عليهم بقوله «فها هو ذا ابن سعود قد ضبطها بأجمعها في مملكته الواسعة، ومحا أثر الغارات والثارات بين القبائل، وأصبح كلُّ إنسان يقدر أن يجوب الصحاري وهو أعزل، ويدخل أرض كلِّ قبيلة دون أن يعترضه معترض أو يسأله سائل إلى أين هو غادٍ أو رائح، ولو قيل لبشر: إن بلادًا كان ذلك شأنها من الفزع والهول وسفك الدِّماء وقطع الطُّرق قد مرد أهلها على هذا البغي وهذا العدوان من سالف الأزمان، وإنَّه يليها ابن سعود فلا تمضي على ولايته لها سنة واحدة حتى يطهِّرها تطهيرًا ويملأها أمنًا وطمأنينة؛ لظنَّ السَّامع أنَّه يسمع أحلامًا أو خرافات، أو اتّهم القائل في صحَّة عقله. ولكن هذا قد صار حقيقة كليَّة، وقضية واقعيَّة في وقت قصير، وما أوجده إلا همّة عالية، وعزمة صادقة، وإيمانٌ بالله، وثقةٌ بالنَّفس، وعلم بأنَّ الله تعالى مؤيِّد من أيَّده، ناصرٌ من نصره، يحثُّ على العمل ويكافئ العامل، ويكره اليأس، ويقول لعباده: {ومن يقنط من رحمة ربِّه إلَّا الضَّالّون}. كتب أرسلان مقاله هذا عام ١٣٤٨ أي بعد موقعة السبلة وقبل تدفق النفط والخير إلى بلادنا، لذلك استنهض رحمه الله المملكة المصرية آنذاك على أن تقف مع السعودية في سبيل العمل على إعمار الحجاز بالبنى التحتية ليضيف إلى الأمن الذي قدمه الملك عبدالعزيز الخدمات التي تليق بحجاج بيت الله الحرام، وقدم شكيبٌ في مقاله شكرًا عريضًا للوزير محمد طلعت باشا حرب وللحكومة المصرية التي التزمت بذلك وشركة بنك مصر التي وضعت الخطط والميزانيات اللازمة لذلك. ونحن هنا مواطنو المملكة العربية السعودية في عهد الملك سلمان نشكرهم أجمل الشكر، وندعو لهم موفور الدعاء على موقفهم النبيل في ذلك التاريخ الصعب، ونبشرهم أن الله تعالى أغنى بلادنا من كنوزها، ووفقها لخدمة أهلها وضيوف ربها أجمل وأعظم ما تكون الخدمة، ونسأل الله تعالى أن يديم عز بلادنا وعز قادتها تحت راية التوحيد العظمى. نافذة يُعد مقال أرسلان من الشهادات العربية المتقدمة جدًا للمملكة وللملك عبدالعزيز، ويقدم كاتبه رسالة أن السعودية أعطت درسًا بأن النهوض والتقدم ممكنان.