وكأن الأمم المتحدة لا تتعلم من أخطائها، ولا تستفيد من دروس الماضي، وترفض إلا مواصلة السير في طريق الفشل الذي اختارته، والانسياق وراء المساومات وأساليب المزايدات السياسية الرخيصة التي أقعدتها عن القيام بالدور المنتظر منها كمنظمة عالمية يفترض أن تضمن الاستقرار والسلام العالمي. هذه المؤسسة التي سقطت منذ أعوام طويلة في بئر الإخفاق وغرقت فيه لم تعد حتى تكتفي ببيانات الشجب والاستنكار وإبداء القلق، بل سلكت مسلكًا آخر يضاف إلى رصيدها الصفري، وهو محاولة تزييف الحقائق وافتعالها واختلاق وقائع لا تملك القدرة على إثباتها.

الأمم المتحدة سكتت طيلة الفترة الماضية على تجاوزات جماعة الحوثيين الانقلابية وهي تقصف مواقع المدنيين العزل في المدن والقرى السعودية المحاذية للحد الجنوبي، وترسل صواريخها الباليستية وطائراتها المسيرة للاعتداء على الأحياء السكنية والمطارات والمنشآت النفطية. وليتها ارتضت لنفسها بهذا الموقف السلبي، لكنها لم تمتلك حمرة الخجل كما يقولون، وعندما اضطرت لإدانة الجريمة البشعة التي ارتكبها الانقلابيون مؤخرًا بإعدام تسعة يمنيين أبرياء بينهم طفل قاصر، بلا محاكمة، لم تشأ أن تفعل ذلك دون أن تفبرك واقعة من وحي خيال القائمين عليها، فادعت وقوع ستة مدنيين في غارة لطيران التحالف العربي على مدينة شبوة.

أي جرأة يملكها المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، الذي أصدر ذلك البيان؟ ومن أي مصدر استقى تلك المعلومة الخاطئة؟ لأن قيادة القوات المشتركة لتحالف دعم الشرعية في اليمن نفت أن تكون قد تلقت أي معلومات أو تنسيقًا من الأمم المتحدة عن تلك الغارة المزعومة. فإذا كان الأمين العام للمنظمة الدولية أو المتحدث باسمه لا يقتنعان بالمعلومات التي توفرها المصادر الرسمية للمنظمة فإن من الواجب إغلاق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية باليمن وتوفير تكاليف تشغيله.

المؤسف أن هذا البيان المتهالك أتى في وقت يثبت فيه التحالف بالفعل تمسكه بأقصى درجات ضبط النفس، ويحجم عن مهاجمة أي أهداف للانقلابيين قد تعرض المدنيين إلى الخطر، رغم أن الميليشيات أطلقت خلال الفترة الماضية مئات الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة المفخخة باتجاه الأعيان المدنية، لكن التحالف لم يقدم على استهداف القيادات والقدرات الحوثية، لأن تلك الجماعة التي تفتقر إلى أي رصيد أخلاقي أو إنساني اتخذت المدنيين دروعًا بشرية، فماذا تريد الأمم المتحدة أكثر من ذلك؟

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح يكمن في الربط الغريب والمثير للريبة بين إدانة إعدام الميليشيات للمدنيين التسعة والإشارة إلى الضحايا الستة للغارة المزعومة على شبوة؟ هل يبحث أنطونيو غوتيريش عن وسيلة لتجنب غضب إيران ويريد استرضاء الحوثيين؟ هل بلغ الهوان بالرجل الأول المسؤول عن أمن العالم أن يخشى ردة فعل ميليشيا انقلابية؟

وما دام دوجاريك يريد الإشارة في بيانه الضعيف إلى أحداث مرتبطة بالأزمة اليمنية فلماذا أحجم عن توجيه إدانة واضحة للدور الإيراني السالب في الأزمة؟ ألا يعلم أن طهران هي المزود الرئيسي للانقلابيين بالأسلحة والمتفجرات، حسبما تؤكد تقارير صادرة عن ذات المنظمة التي يتحدث باسمها؟

للأسف فقد بحثت في ذاكرتي وعصرتها لأجد تفسيرًا يليق بذلك البيان الخاطئ، فلم أجد سوى أنه سقطة فاضحة تكشف بجلاء حجم التردي المريع الذي وصلت إليه حال تلك المنظمة العريقة التي تراجعت عن أداء دورها في فرض السلام والالتزام بالقوانين الدولية، وأصبحت مطية تستغلها دول بعينها لتنفيذ أهداف سياسية بعيدة كل البعد عن الدور الحقيقي الذي أنشئت لأجله.

ليس ذلك فحسب بل إن الأمم المتحدة هي السبب الحقيقي في وجود واستمرار مآس كثيرة حول العالم، ونظرة بسيطة إلى الواقع المؤلم في دول المنطقة تؤكد تلك الرؤية، فماذا فعلت لوضع حلول للأزمة في اليمن؟ وماذا قدمت لأطفال سورية الذين تطحنهم نيران الحرب؟ وما هو دورها في العراق وأتباع إيران يعطلون العملية السياسية؟ وكيف تصرفت في لبنان وحزب الله يضع العراقيل أمام الحكومة قبل أن يعلن تشكيلها؟

أما في الملف الإيراني فقد اكتفت بالوقوف موقف المتفرج ونظام طهران يستقوي على العالم كله ويرفض التخلي عن برنامجه النووي المشبوه، حتى المفتشات اللاتي يتبعن للأمم المتحدة لم يسلمن من محاولات التحرش الجسدي دون أن تملك المنظمة الغارقة في سبات عميق القدرة على حمايتهن، ناهيك عن تمكينهن من أداء المهمة التي أرسلتهن لأجلها.

وعلى صعيد الوضع الشائك في أفغانستان فيبدو أن الأمم المتحدة ومسؤوليها لم يعلموا بعد أن أمريكا قد انسحبت وأن طالبان قد عادت من جديد، وأن هناك مخاوف حقيقية من عودة تنظيم القاعدة ليسبب إزعاجًا للعالم كله كما فعل سابقًا.

الجانب الإيجابي الوحيد الذي يمكن استخلاصه من التقرير هو أنه يؤكد بجلاء أن من ينتظر من الأمم المتحدة أن تقوم بجهد حقيقي يسهم في ضمان أمن العالم وسلامته كمن ينتظر وصول القطار وسط كثبان الرمل. لذلك فإن على اليمنيين إدراك أن الحل لتحرير بلادهم من كابوس الحوثيين يكمن في جهد سواعدهم وعرق جباههم، فالسبيل الوحيد إلى تحقيق ذلك الهدف هو توحيد صفوفهم ومضاعفة العمليات العسكرية، فقط لا غير.

أما المملكة التي تقود التحالف العربي فهي تدرك جيدًا كيف تحمي مصالحها وتصون مكتسباتها، ولن تنظر لمثل تلك التقارير الصفراء، ولن تلتفت إلى الوراء لمتابعة المترددين وأصحاب الأجندات المشبوهة، وباستطاعتها رد مؤامرات أعدائها، مهما كانوا وأينما وجدوا، وهي على ذلك قادرة بحول الله وقوته.