شارفت المملكة على اجتثاث جائحة كورونا وتطويق الفيروس، بعد تضحيات كبيرة ومجاهدات متواصلة حصدت بعدها ثمار النجاح وتذوقت طعم التفوق، وحققت نتائج مبهرة تمثلت في الانخفاض الكبير لمنحنى الإصابات، وتراجع أعداد الحالات الحرجة، مما دعا الجهات المسؤولة إلى إصدار قرار خلال الأيام الماضية بتخفيف الإجراءات الاحترازية التي كانت قد أقرتها خلال انتشار الجائحة وتفشي المرض، ومنها السماح بعدم ارتداء الكمامة في الأماكن المفتوحة، وعودة الصلاة في الحرمين الشريفين بالطاقة القصوى، والسماح بعودة التجمعات في قاعات الأفراح، شريطة تلقي جرعتين من اللقاح، وغير ذلك من الإجراءات.

بدءا نؤكد على أن هذا النجاح لم يتحقق مصادفة أو بضربة حظ، فالصدفة لا تصنع مثل تلك الإنجازات، بل كان نتاجًا لجهد دؤوب وعمل مضن، شاركت فيه جميع قطاعات المجتمع، بدءًا من القيادة الرشيدة على أعلى مستوياتها، مرورًا بجنود الجيش الأبيض في المستشفيات والمواقع الميدانية، ورجال الأمن والنظام العام، ومؤسسات القطاعين العام والخاص، وكل الجهات ذات الصلة، بتجاوب كبير من جميع المواطنين والمقيمين، وهم الذين راهن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز - حفظه الله - على وعيهم والتزامهم وقدرتهم على تحمل المسؤولية.

لم تترك الجهات المسؤولة أي شيء لعنصر الحظ، بل اتبعت خطة محكمة أخذت في الاعتبار كل الاحتمالات التي يمكن أن تحدث، ولو كان بنسبة قليلة، ولم تبخل في تقديم كل ما يؤدي إلى ضمان سلامة المواطن والمقيم، وقدمت المملكة مليارات الريالات لاستيراد اللقاحات اللازمة، وتهيئة المستشفيات والمراكز الطبية، وتجهيز مراكز العزل الطبي في فنادق بعضها من فئة الخمسة نجوم، وتوفير الكوادر البشرية. حتى الذين أصيبوا بالمرض خارج المملكة وعلقوا في دول أخرى صدرت الأوامر الواضحة بإجلائهم عبر طائرات الإخلاء الطبي وإعادتهم إلى وطنهم معززين مكرمين.

هذا الجهد الكبير لم يكن موجها لشخص دون الآخر أو لفرد بعينه، بل إن إنسانية الملك سلمان تجلت في أبهى صورها عندما أصدر قراره التاريخي بتقديم العون والدعم الطبي لجميع من هم على هذه الأرض المباركة، سواء كانوا مواطنين أو مقيمين، حتى الذين تجرأوا على قوانين الإقامة وانتهكوها طالتهم يد الرحمة، ووجدوا الرعاية الطبية الكاملة، تطبيقًا لتكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان في قوله «ولقد كرمنا بني آدم».

هذه الرؤية الرحيمة انفردت بها المملكة دون غيرها من سائر دول العالم، فحتى الغربيين الذين يطلقون على أنفسهم مسمى (الدول المتقدمة) أحجموا في بداية ظهور الفيروس عن تقديم العون للمهاجرين واللاجئين، وعندما أنتجت اللقاحات اقتصروها على مواطنيهم وأبناء الدول الأوروبية قبل الآخرين، متجاهلين أنهم بذلك يميزون بين الإنسان بحسب عرقه ودينه ووضعه القانوني. والبون الشاسع بين الموقف المشرق للمملكة وبين تلك المواقف المترددة يوضح الفرق بين عظمة الإسلام ورحمته ومادية الإنسان وطغيانه.

الموقف المشرق الآخر الذي اتخذته المملكة في تصديها للجائحة تمثل في اقتصار الحج خلال الموسمين السابقين على الحجاج من داخل المملكة من المواطنين والمقيمين، وتعليق العمرة والزيارة والصلاة في المساجد، وذلك إعلاء لسلامة الإنسان وحفظ صحته، وتأكيد أن مصلحة المسلمين مقدمة على ما سواها، وهو ما ينسجم مع مقاصد الشريعة التي نادت بحفظ الضرورات الخمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال) وقاعدة (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح).

كذلك تنزلت الحكمة السعودية في أبهى معانيها، فالمواجهة كانت مع عدو خفي يتسلل عبر الأفراد والجماعات ولا يعلم إلا الله متى ستنجلي الأزمة، فكان لا بد من إغلاق الاقتصاد لعدة أشهر، وتعليق التنقل بين المناطق، وإيقاف الدراسة الحضورية في المدارس، وقف العمل في دواوين الحكومة، وهنا لم تتردد القيادة في تسخير كل الإمكانات للحفاظ على المكتسبات التي تحققت خلال الفترة الماضية، ومد يد العون لمواطنيها الذين سيتأثرون بلا شك نتيجة للإجراءات الاحترازية، فكان السخاء الكبير بإنفاق ما يزيد على 180 مليارًا من الريالات، لدعم الاقتصاد والحفاظ على الوظائف.

تواصلت مسيرة النجاح وحرصت القيادة كذلك على تطعيم جميع المواطنين والمقيمين باللقاحات التي تقي من المرض وتستأصل خطره، فتم توفير أفضل اللقاحات الموجودة في العالم، وتجهيز المراكز، ولم تحدث أي حالات ازدحام أو تجمعات، بل إن الجهات المختصة ظلت وما زالت تحت الناس على التوجه لمراكز التطعيم المنتشرة في كل المدن والقرى حتى شارف عدد جرعات اللقاحات التي قدمت للمواطنين والمقيمين على 50 مليون جرعة.

اللافت في الأمر أن تلك الإجراءات المتكاملة تمت بمنتهى السلاسة، بعيدًا عن سياسات الإكراه والإرغام، وبدون أي إجراءات عقابية، فبينما نشرت بعض الدول المتقدمة الجيوش في الشوارع، وطبقت العقوبات البدنية القاسية على المتجاوزين فإن المملكة اختارت أسلوب اللين الذي تتبعه في كل سياساتها، وعمدت إلى بث الوعي بين السكان، وراهنت على تجاوبهم ووعيهم، وهو الرهان الذي أثبتت الأيام أنه كان في محله.

إن كان من همسة أخيرة فهي ضرورة التأكيد على أن هذه النجاحات تحققت بتضحيات الجميع، ولكن لا ينبغي أن تقودنا إلى الوقوع في الخطأ، فالعدو لا يزال موجودًا ويتربص بنا الدوائر وينتظر فرصة أو ثغرة لينفذ منها - لا قدر الله - وبعد أن تمكننا من توجيه ضربات قاضية له وأوشكنا على اجتثاثه نهائيًّا فإن الحكمة تقتضي السير في طريق الحذر، والتمسك بالحكمة، والبقاء على نهج الوعي، ولن يتأتى ذلك إلا بالتجاوب مع التوجيهات وتطبيقها بمنتهى الحرص، فقد قطعنا معظم المشوار ولم تتبق سوى خطوات قليلة بعدها سنحتفل جميعًا - بإذن الله - بزوال الكابوس إلى غير رجعة.