قبض القاص محمد علي علوان على جبل «تَهْلَل»، الواقع في الجنوب الغربي لجبال عسير، والذي يمثل مساحة مشعة بالفخر والكبرياء من الذاكرة الوطنية، بين خافقه ويديه وذاكرته البعيدة، مشكلا منه عالما يضج بإيقاع القرية العسيرية، ينثر أسئلة «السراة وتهامة» عن معنى الحياة التي تبتلع مجتمعات القرى المفتوحة على تفاصيل الغيم وحواف السيل حين يعانق أودية المكان، وناسجا «حكايات الجبال»، في «نوفيلا» حملت اسم الجبل الضخم، الذي يصل ارتفاعه إلى أكثر من 3207 مترات تقريبا فوق مستوى سطح البحر، كأعلى نقطة في شبه الجزيرة العربية.

الانفتاح على الآخر

قدم «علوان» عالما محددا بنكهة القرية أولا، صُنع محليا عبر تراكمات التاريخ، زاخرا بشخصيات القرية في تهامة وجبال السروات، حيث يتداخل إيقاع بساطة الماضي مع أنماط الحياة بكل تشكلاتها الاقتصادية عبر بواباتها الأولى «الزراعة»، فالتجارة، فالترحال، فالعشق، فالحذر من الأغراب وتقبلهم تاليا، رابطا عناصر المكان بوقائع انتظمها سرد وصفي، يكثف الانفعالات والدواخل النفسية لابن القرية، وتعاطيه مع حركة التاريخ وتبدلاته، وخطوات التمدن والانفتاح على الآخر، بالتقاطع مع العراق (البصرة)، والشام (حمص)، والرياض، والحجاز، وفي اتون سرد ميزته حميمية لغة،يتجلى نقاء القروي القديم، وبساطته، وتعالقه مع الأسواق التاريخية للمنطقة، وتكوين نمط اقتصادي مستقر، يخلق سلوكيات اجتماعية تتدفق، بما ينعكس على المواقف في مواجهة الحياة بكل مفرداتها و مستويات تبايناتها (الحب، والتحدي، والإصرار، والفاقة، والسرقة، والعادات، والترابط الأسري، والقناعة)، وما إلى ذلك من مفردات تصوغ ملحمة الحياة لإنسان قرى تلك الجبال المتآخية دوما مع الغيم ومياه السماء.

شفافية الروح

تظهر، بشكل صارخ، قصدية علوان في أنسنة الأشياء كأوضح رمز صارخ في «تهلل»، وفي مقدمتها الجبال والشجر وحجارة البيوت التي شكلت «الحصون»، ومكونات المائدة العسيرية، مبرزا انسيابية وملامح الحراك الشعبي لإنسان الريف، ومقدما نموذجا لنمط حياة أناس واعين كل الوعي بمصالحهم، وماهية العيش، دون أن يجنح لتصوير أي مأساة اجتماعية، أو يتورط في أفكار وجدالات كبرى، تتناول قيم الإنتاج ورأس المال، بل اتجه عميقا ورأسا صوب العلاقات الاجتماعية بين البشر، وعلاقات هؤلاء البشر مع ما حولهم من كل مكونات الطبيعة، دون أي إسهاب يعوق تقديم عوالم أوضح سماتها شفافية الروح، والرضا بمعطيات المكان، والجهر بالغناء، وشغف العيش..

مشاعر وترحال

إذا كانت «حكايات الجبال لا تنتهي بطول الزمان، فلربما تضمحل تلك الحكايات في ذاكرة سكانها الذين ذرعوها على أقدامهم منذ ولادتهم، نساء ورجالا، أما ذاكرة الجبال والأشجار والوديان السحيقة، فهي تنمو بمرور الزمن، قد تخبئها ذات يوم عن الآخرين»، فإن محمد علي علوان كاشف القارئ بجمال، رافضا تلك التخبئة، شاهرا ومفصحا عن حكايات الجبال، بكل ما رغب وبكل ما استل من ذاكرة المكان / الإنسان، وقد تماهيا معا فوق غيوم تهلل، وعشب واديها عبر شخصيات حية، استمدت حيويتها من طبيعة المكان، وملامح ما تراكم من مشاعر وترحال ومخاوف غامضة.

عالم قديم

«لجبل «تهلل» حكاياته التي خبأتها الأيام عن الليالي التي تجوس في الليالي المقمرة، باحثة عن سر الحكايات المتشابكة مع شجر إكتهل، مثقلا بقصص الجن والإنس و«طروق» الـ«ثلابة» التي تختفي ملامحهم، ثم تستبين مع هدأة الليل، حيث ينبت العشق».

«قرر «تهلل» أن يبوح بالأسرار، ويتلوها كل صبيحة يوم غائم لقطعان السحاب المثقل بالبياض».. هكذا تسلم «علوان» من «تهلل» خيوط كل حكاية، لينقلنا إلى عالم قديم، يضج ببكارة السحاب، ورشاقة الجبال التي تتماهي مع الغيم، وهي تناول القارئ طزاجة حكاية لفلاح، وقروي، وعاشق، وفق رؤية لها جمالياتها اللغوية ودلالاتها المعبرة، وبأدوات فنية وٌظفت بإتقان وحنكة ومهارة وخبرات ابداعية، نأت عن الصوت العالي، ووازنت بين البساطة وحيوية الحكي التي خلقت حركة حياة، تتحملها تماما «النوفيلا».

مقتطفات من العمل:

«تهلل ذاكرة الناس الذين عبروا بين الأشجار، مثقلة قلوبهم بشظف الحياة والبحث عن عمل، أو أمل ينجيهم من فقر قراهم التي لا تمنحهم سوى بقاء منقوص، وقرى هجرها المطر لسنين عديدة، حيث يبست البلاد والعباد.

يقال في «تهلل» إنه لقبيلة من الجن، سكنته منذ أعوام سحيقة، ولا يشعر بها أحد، خاصة في النهار، ولكن الليل يمثل لهم وقتا للعمل والنشاط، وعندما يعبر الإنسان وهو فوق دابته في ليل «تهلل» الحالك، فإن دابته تحرن أكثر من وهلة الأمر الذي يصيبه بعدوى الفزع، وتتقافز أمامه صور غير مألوفة، ويسمع أصوات لا شك أنها غير آدمية.

«تهلل» رفيق الغيم الدائم، وفي صمته تٌختزن حكايات الأولين والآخرين، وكل يخفي قصته التي لا يبوح بها حتى للمقربين منه، خشية انتقام الجبل وساكنيه الذين لا تُعرف ملامحهم. «تهلل»، ومن على البُعد، هو حارس يفتح للشمس بابا للغروب، ويودعها وهي تتجرد، لتدخل البحر، لتبدأ الاستعداد ليوم قادم، يبدأ من شرق تهلل الشامخ. كان هذا الجبل مجموعة حكايات متواترة، لكن الحقيقة تحولت إلى شبه أسطورة في أذهان العابرين، خاصة في الليل البهيم، وشتاء السودة الذي لا يرحم أحدا ولا مخلوقا».

سوق الثلوث

«ذكريات «سوق الثلوث»، وحكاياته الملونة، لكل بيت حكاية خاصة به، ولكل فتاة قصتها المستورة التي لا تتضح إلا بغتة، ولكل فتى مجموعة من الحكايات، ومغامرات مسروقة يتباهى بها حتى لو كانت من نسج خيال المراهقة، وسماع الذين يكبرونهم عمرا، وتجربة يتباهون بها. «سوق الثلوث» عرس اجتماعي، يفدون إليه من تهامة والسراة، يحملون بضائعهم المختلفة، من الحطب والفحم وأنواع الفواكه والخضراوات، وكل يقول في داخله «يا رب رزقك وعافيتك».

يتوسط سوق الثلوث «عود الإتريك» الشهير، حيث كان يشع ويرسل الضوء ببقعة ضوء دائرية الشكل، هذا في الليل، أما في النهار، فتلك حكاية أخرى تتناقض بين الليل والنهار، حيث تتدلى يد مقطوعة بلونها الأزرق الذي يميل إلى السواد.

رواد السوق يتحاشون مشاهدة هذا المنظر الصادم، لكنه القانون الذي لا يملك تفسيرا غير التطبيق الذي لا يبصر.

كان مقهى ابن مفتاح هو الوحيد الذي يستقبل الغرباء».

النوفيلا - Novella

* سرد خيالي نثري «أطول» من النوفيليت Novelette (القصة القصيرة) وأقصر من الرواية

*نوع أدبي شاع في اللغات الأوروبية الأخرى أكثر من شيوعه في الإنجليزية

*ازدهر في ألمانيا بالقرن الثامن عشر وما بعده على أيدي كتّاب أمثال: جوته، وتوماس مان، وفرانز كافك

*يروي حكايات عدة رواة، لإشغال القراء عن التفكير بالبلاء الذي حل بهم

*تقول الناقدة الأمريكية جوديت لايبوفيتز في كتابها «السرد وغايته في النوفيلا»:

في الوقت الذي تقوم فيه «القصة القصيرة» بتضييق المادة، وتقوم «الرواية» بتوسيعها، تقوم «النوفيلا» بالدورين معا.

محمد علي علوان قاص وكاتب سعودي

*ولد بأبها 1951

*بكالوريوس في الأدب العربي من جامعة الملك سعود

*عمل في وزارة الإعلام منذ تخرجه في 1394

*أصبح وكيلا مساعدا لشؤون الإعلام الداخلي من يوليو 2005

*أشرف على الصفحات الثقافية في مجلة «اليمامة»و صحيفة «الرياض»

* من مجموعاته القصصية:

«الخبز والصمت» 1977

«الحكاية تبدأ هكذا» 1983

«دامسة» 1998

«هاتف» 2014

«طائر العِشا» 2020