على الرغم صعوبة التطبيع مع النظام السوري أو مع رئيسه، لا بأس بالنظر بجدية إلى خطة العمل أو «اللاورقة» التي أعدها الأردن بعد مشاورات واسعة مع النظام نفسه، ومع واشنطن وموسكو وعواصم أوروبية وعربية الراغبة. الحجة التبريرية هي أن الوضع الراهن ليس خياراً وليس مفتوحاً على أفق للحل السياسي المطلوب. تريد الخطة معالجة الواقع بالتعامل معه، وتطمح لأن تغيره أولاً بالتركيز على الوضع الإنساني وتأمين «العودة الآمنة» للنازحين واللاجئين، ثم بالتقدم على مسار القضايا السياسي تنفيذاً للقرار الدولي 2254 مشفوعاً بوقف شامل لإطلاق النار. وفي مرحلتين أخيرتين يراد إنهاء مكافحة التنظيمات الإرهابية تمهيداً لانسحاب القوات الأجنبية، باستثناء الروسية.

أطراف عديدة أعطت موافقة مبدئية على الخطة، لذلك تشجع الأردن للبدء بتحركه، سواء بفتح المعبر الحدودي واتفاقات أمنية، وأخيراً بإعادة تشغيل المنطقة التجارية الحرة على الحدود «لتكون أحد مرتكزات العمل العربي الاقتصادي المشترك». وخطت الإمارات خطوة متقدمة عبر زيارة وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد لدمشق، ورفدتها الجزائر التي ستستضيف القمة العربية المقبلة في مارس 2022 معلنة بلسان رئيسها عبدالمجيد تبون أنها تؤيد عودة سورية إلى جامعة الدول العربية، وملوحة بإمكان دعوة بشار الأسد إلى القمة. والشائع أن تسع دول عربية مع هذا التوجه، وقد تكون هناك أربع أو خمس دول أخرى لا ترفضه بالمطلق، وما تبقى من الدول لا يعارض أي توافق عربي، إذا تبلور... لكن اللافت أن خطة التطبيع لا تلحظ عودة وشيكة لسورية إلى الجامعة، بل في مرحلة ثالثة، وبعد أن يكون النظام امتثل وتعاون في مرحلتي تحسين الوضع الإنساني بإشراف الأمم المتحدة وتسهيل عودة النازحين واللاجئين.

تطمح الخطة، بانطلاقها من البعد الإنساني والحل السياسي، إلى الإيحاء بأنها تستجيب لمتطلبات الشعب السوري وطموحاته. ولعل هذه المقاربة للأزمة السورية أصبحت عامة، إذ لم تعد هناك دولة أو مجموعة دول تتبنى قضية الشعب السوري بمنظور المعارضة أو المعارضات المعروفة. فلدى السؤال عن الحل يشار إلى القرار الدولي، ويتكرر شعار «لا حل عسكرياً في سورية، بل حل سياسي». لكن الأطراف الدولية لم تتفق يوماً على استراتيجية واضحة للحل السياسي، أما الأطراف المتدخلة مباشرة في سورية، خصوصاً روسيا وإيران، فاتبعت استراتيجية الحل العسكري وفرضتها غير أنها اصطدمت بعدم القدرة على استثماره سياسياً أو لإعادة الاعمار. وفي هذا المجال تحديداً لا تزال العواصم الغربية، أو بعض منها حصراً، تربط مساهماتها المالية بتقدم الحل السياسي وتتمسك بمواقف «مبدئية» ضد النظام، انطلاقاً من قوانين دولية لا تتسامح مع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم استخدام السلاح الكيماوي، كذلك استناداً إلى استقصاءات موثقة للجان ومنظمات حقوقية تلاقي أصداء واسعة وتجعل من محاسبة نظام الأسد مسؤولية عالمية لا يسهل على أي «دولة قانون» أن تمررها لاعتبارات تصب في إعادة تأهيل هذا النظام.

في تقويم الخطة يمكن القول، إن «الموافقة» الأمريكية والأوروبية على التطبيع لا تتكلف شيئاً وليست معلنة ولا تعتبر داعمة بل غير ممانعة، أي أنها اختبارية لترى ما إذا كان نظام الأسد مستعداً لانخراط حقيقي في آلية «الحوافز مقابل تغيير السلوك» أو الـ«خطوة مقابل خطوة». ولا تتطلب المرحلتان الأوليان (تنظيم إيصال المساعدات، وتسهيل عودة اللاجئين) أي تخفيف للعقوبات المفروضة على النظام، لكن ينبغي أن تترافقا بتقدم جدي وجوهري في عمل اللجنة الدستورية كي يبدأ التفكير في رفع تدريجي للعقوبات. أما روسيا فهي مؤيدة ومشجعة لأي تحرك عربي لكنها تربط كل شيء بالمكاسب التي تتحقق لها، علماً بأن العرض الذي تتضمنه الخطة بالغ الوضوح في الاعتماد على روسيا وينص على اعتراف بـ«مصالحها المشروعة» في سورية لدعم «ضمان قبوله وتنفيذه» من جانب النظام. وهناك اعتراف مماثل، أمريكي وأوروبي، بهذه «المصالح» لكنه مشروط بـ«حسن سلوك» روسي غير مضمون، بدليل عودة التوتر إلى الملف الأوكراني.

أما الجانب العربي، فحددت الخطة أهدافه من التطبيع بإشارات عدة: إحداث تغييرات إيجابية لحل الأزمة، واستعادة سورية و«رأب التصدعات في الموقف العربي»، إضافة إلى مصالح اقتصادية وسياسية أهمها «التقليل من النفوذ الإيراني» الذي يجري الحديث عنه في أضيق نطاق، مع أنه يرد في الأهداف الرئيسية للخطة التي يعتقد أصحابها أن التعويل على تحسن الوضع الإنساني (الداخلي) وعودة النازحين واللاجئين وتكثيف الجهود في مكافحة إرهاب داعش والتنظيمات الأخرى تشكل عناصر مساعدة للحد من ذلك النفوذ. أقل ما يمكن أن يقال إن ثمة مخاطرة بل مقامرة سياسية ومبدئية تكتنف التحرك العربي لتحقيق «الإيجابيات» المنشودة، ما لم يحظ بمواكبة فاعلة ومشجعة من جانب روسيا وأمريكا، وهذان الطرفان غير متوافقين بعد في شأن سورية. فالاعتماد على تعاون الأسد وحده لن يكون مجدياً، أولاً لأن التقليل من نفوذ إيران بات يساوي عنده التقليل من نفوذه، ثم إن سورية- النظام وروسيا وإيران لا تولي أهمية للشعب السوري وتطلعاته، ومن شأن ذلك أن يبقي الأزمة في مربعها الأساسي.

يستطيع العرب الراغبون في التطبيع تقديم «الحوافز» التي يشيرون إليها لكن الحصول على «المقابل» يفترض أن يجري النظام ورئيسه مراجعة عميقة لنهجهما منذ بداية الأزمة حتى الآن. وتقول مصادر مطلعة، إن العواصم العربية المعنية تعلم أن الأسد شكل فريق عمل لدرس «المطالب»، وهي تنتظر منه خطوة لا بد أن تتلوها خطوات لا يقدر عليها. غير أنها مدركة مسبقاً أنه ليس معنياً في هذه المرحلة بوضع النفوذ الإيراني على الطاولة، سواء لعلمه بأن هذا النفوذ متغلغل سياسياً وأمنياً واقتصادياً في مفاصل النظام، أو لأنه يريد التعرف إلى «الحوافز» ومدى مواءمتها لدعم «شرعية» نظامه، أو خصوصاً لأنه مسكون بفكرة أن العرب يأتون إليه من تلقائهم وهو ليس مضطراً لتقديم تنازلات سبق أن رفضها.

يمكن أن تتضح الغاية من «خطة التطبيع» حين يجيب التحرك العربي عن هذه التساؤلات: هل أن التطبيع تزكية للأسد ونهجه أم أنه من أجل سورية والسوريين، وهل أن تجميد عضوية سورية في الجامعة كان رفضاً للنهج الدموي للنظام، وهل أن إعادتها إلى الجامعة تعفيه من جرائمه، وهل أنهم متأكدون فعلاً من أن الأسد يريد سلاماً مع شعبه...

* ينشر بالتزامن مع موقع النهار العربي