يُروِّج الإعلامُ الغربي - الذي يُعتبر بجميع اختصاصاته أقوى أذرعةِ التأثير الماسوني في الشعوب والدول - لحملةٍ إعلاميّة وثقافيةٍ، مقصدُها مكافحةُ العنف ضدِّ المرأة، وذلك من 25 نوفمبر حتى 10 ديسمبر، والمؤسف أنَّ كثيرًا من المؤسسات الثقافية والإعلامية والاجتماعية والسياسيّة في عالمنا الإسلاميّ تفاعلت مع هذه الدعوات، وتشتغل الآن لترتيب برامجها، للمشاركة فيها.

وأعتقد أنَّ أكثر الداعين إلى هذا الأمر في بلادنا، وأيضا في العالم الإسلامي، منطلقاتهم صحيحة في ذاتها، لكنهم يضعونها في غير مواضعها، كقولهم: إنَّ الإسلام أدان العنفَ ضدَّ المرأة ونهى عنه، وأمر برعاية النساء والرفقِ بهن، وفرضَ بِرَّ الأمهات، وجعلهنّ في الدرجة الأولى والثانية والثالثة فيمن ينبغي على الإنسان أن يحسِن صحبتَه، وفي هذا كلِّه من الآيات والأحاديث الكثير، مما نحمَد الله عليه في شرعنا.

لكن هذا المنطلق الصحيح في ذاته ليس هو المنطلَق الصحيح في معالجة القضيَّة، وليس مُسوِّغًا للمشاركة في الحملة.

ولشرح ذلك، نبدأ بالحديث عنِ الغَرب، ولماذا تَشيع لديهم فكرةُ مكافحة العنف ضدَّ النساء؟.

التاريخ الثقافي الأوروبي صراع بين الرجل والمرأة، وليس تاريخ وفاقٍ ومحبَّة، فهو يعادي المرأة منذ أقدم العصور، وحتى فلاسفة عصر النهضة، فأفلاطون كان يأسف أنه ابن امرأةٍ، وأرسطو يرى أن المرأة كائن مشوَّه عقيم عاجِز إلا عن أن يكونَ وعاءً للجنين، ونيتشة يرى أن المرأة في أفضل أحوالها حيوان كالقطط والكِلاب، وآرثر شوبنهور يرى أن المرأة ينبغي ألا تحلمَ بأكثر من أن تكونَ ربَّةَ بيتٍ، ويوصي بعدم تعليمهن وتدريبهنّ؛ لأن ذلك يؤدّي بهنّ إلى الغطرسة.

وهذا أمر مشهورٌ في الفلسفة الغربية، التي في مجملها تجعَل العلاقة بين جنس الرجال وجنس النساء علاقةَ حَرب وتَحدٍّ، سواء منهم المعادون للمرأة أم المؤيِّدون، فالمعادون يرون أنّ من الواجب تحدِّي المرأة وإسقاطها، والمؤيّدون للمرأة يرون الواجبَ على النساء تحدّيَ الرجال وإسقاطَهم.

تأثّرت الديانة النصرانية المحرّفة بالمواقف الفلسفية، حيث أُدْخِلت كثير من وجهات نظر أفلاطون، ثم كثير من أفكار أرسطو إليها، وقبل ذلك الصورةُ التوراتية للمرأة، التي آمن بها النصارى، وكونها السببَ في إخراج آدم من الجنة، فبنى النصارى على ذلك اعتبارَها كائنًا شيطانيًّا، ومِن ثَمَّ كان من شروط العمل الكَنَسِي عدم الزواج؛ لأنه ارتباط بالشيطان، ومِن شروط الراهبات المُكث في الأديرة، وعدم مغادرتها، حتى يَبعُد الشيطان الماكث فيهن عن مخالطة الناس.

وقبل الديانة النصرانية، حين كان الأوروبيون وثنيّين، كانت المرأة عندهم كائنًا لا يستحقّ الحياة دون أن يكون تابعًا لرجل، ومن ذلك يروي «ابنُ فضلان» في رحلته، التي تعتبر أقدمَ توثيق لعادات شمال أوروبا، كيف حضَر احتفالًا بقتل امرأةٍ قتلةً شنيعةً، ثم حرقها في السفينة، بعد موت سيِّدها، كي تلحق به في الدار الآخرة.

وبعد الثورة الفرنسية، التي كانت أيضا ثورةً ثقافية، بدأت المرأةُ لا بتصحيح خطأ الموروث الثقافي، بل بالعمل من منطلق أصلِ الصراع بين الذكر والأنثى، والتحدّي، ومحاولة اكتساح الرجال، وأخذ أماكنهم وأدوارهم، ابتداءً من اللباس إلى رئاسة الدول، بدعوى المساواة.

وبدأت الحركات النسويّة في أوروبا وأمريكا من القرن التاسع عشر، وتدرّجت مطالباتها تحت شعار «أخذ الحقوق»، بدءا من حق الاقتراع والعمل دون أن يوضع لهذه المطالبات أيّ سقف، ودون أن تقدّم النسويات تعريفًا لحقوق المرأة سوى كلمة «المساواة»، وحتى هذه المساواة لم يوجدوا لها أيّ إطار يحدِّدها، وإنما هي بمثابة ذرائع الحروب العسكرية عند الأوروبيّين. ففي السياسة الحربية لدى الغرب، يضعون لكل حرب ذرائع أخلاقية، وحين ينتصرون لا يتوقّفون في مطامعهم عند حدّ، والأمر كذلك في حروب النسويات، فالمساواة ورفع الظلم عن المرأة ذريعة للحرب الثقافية والسياسية والدينية التي تشنّها الجمعيات النسوية ضدّ الرجال، لكننا نجدهنَّ - وقد انتَصرنَ في الغرب وأصبحت المرأة مساوية للرجل في جميع الحقوق والواجبات - ما زالت الجمعيات النسوية في أوروبا تعمل، ولكن ليس من أجل المساواة ورفع المظلومية اللَّذين تحقَّقا منذ عقود، وإنما لإلغاء الأنوثة بالكامل عن طريق المطالبة بإجازة تحوّل المرأة إلى رجل والعكس، وإحداث ما يسمُّونه «الجنس الجديد»، ويرمزون له بـ«الجندر»، وإلغاء الأمومة عن طريق إحداث ما يُسمّونه «الأمومة المبتكرة»، وإلغاء الواجبات الأُسرية عن طريق إحداث ما يسمّونه «الأسرة الجديدة»، وإلغاء قِيمة العِفَّة عن طريق رفع شعار «الحرية في التصرّف بالجسد».

وفي كلّ ذلك يستغلّون عدمَ وجود أيّ تعريف للمساواة أو للعنف، فالمساواة تتجاوز كل الحدود التي تُتِيحُها اللغة لمعنى كلمة «مساواة»، وكل المعاني التي يُمكن أن يتصوّرها العقل لهذه الكلمة.

وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالعنف، فالفراغ المتَعمَّد من إيجاد أيّ تعريفٍ رسميّ له جعل المجال متاحا ليَعني لدَى المنظَّمات النسويّة تطبيقَ أي نظام أو تنظيم دينيّ أو عُرفيّ أو قِيَميّ أو قانونيّ، يحكم تصرفات النساء الخُلُقيّة وعلاقاتهن الاجتماعية والأسرية، أو يُحدّد مسؤولياتهن، فأيّ شيء من ذلك يعني عنفا ضدَّ المرأة.

لذلك لا يُمكنك تخيُّل ماذا تريد النسويات في أوروبا والولايات المتّحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وقد تجاوزن بمراحل بعيدة حدودَ المساواة، واستطعنَ القضاء على كلّ الأنظمة التي تخصُّ المرأة، حيث لم يبق ممنوعا على النساء سوى التعرّي الكامل في الشوارع، وهو أمر تطالب به اليوم بعضهنّ.

وهنا نقف لنقول: ما المُشتركُ الذي بيننا وبين الغرب في قضايا المرأة حتى نشتركَ في هذه الحملة لمكافحة العنف ضد المرأة؟!.

الجواب: لا يوجد بتاتا؛ لأنّ لدينا تعريفا محدَّدا للعنف، يمكن بناءً عليه القول بيُسرٍ إنّ فلانة أو فلانا تجاوز الحدَّ الشرعيّ في التعامل مع الرجل أو المرأة أو الطفل، أيًّا كان مكانهم في حياتنا، والمساواة لدينا يمكن تعريفها بأنها القيام بالواجبات وأخذ المستحقَّات التي تتيحها الشريعة لكلٍّ من الرجل والمرأة، اللَّذين تنظّم علاقتَهما قواعدُ ومبادئ شرعية لا يمكن تجاوزها.

وتاريخنا الجاهليّ، ومن بعده الإسلاميّ، لا يوجد فيه مبدأُ الصراع أو التحدّي بين الجنسين، كما هو في الغرب. نعم الجاهلية جاهليّة، ولا يمكن مدحُها أو الدفاع عنها، وقد كان على المرأة مظالمُ فيها، رفعَها الإسلام، لكن مع كلّ ذلك فعلاقة المرأة بالرجل ليست صراعا وتحدٍّيا، وإنما كانت المرأة تَعرف دورَها في بيتها وعشيرتها، والرجل يعرفُ دوره. وقد عرفنا في التراث الجاهليّ أمهاتٍ مرموقاتٍ، كُنَّ مصدر فخر لبنيهنّ، وأخواتٍ نبيلاتٍ، وزوجاتٍ فُضلَيات، ولا يعرف في الأدب الجاهليّ احتقارٌ لجنس النساء، وإن وقع الظّلم في كثير من العادات.

ولما جاء الإسلام أعطَى الرجلَ مكانَه ومكانتَه، وحدَّد له حدوده، وأعطى المرأةَ مكانها ومكانتها، وحدَّد لها حدودها، ونَظَّم العلاقة بينهما بأحكام شرعيّة، جعل تنفيذَها عبادةً لله تعالى، وطاعةً وقربةً، وجعل التخلِّيَ عنها معصيةً له، وتعدِّيا لحدوده.

فأيّ تجاوز من الرجل لحدود الله في التعامل مع المرأة ليس عنفا ضدَّها بقدر ما هو تعدٍّ لحدود الله، حيث قال في كتابه، وهو يبسط إحدى قواعِد العلاقات الأُسرية: ﴿الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمساكٌ بِمَعروفٍ أَو تَسريحٌ بِإِحسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُم أَن تَأخُذوا مِمّا آتَيتُموهُنَّ شَيئًا إِلّا أَن يَخافا أَلّا يُقيما حُدودَ اللَّهِ فَإِن خِفتُم أَلّا يُقيما حُدودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيهِما فيمَا افتَدَت بِهِ تِلكَ حُدودُ اللَّهِ فَلا تَعتَدوها وَمَن يَتَعَدَّ حُدودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظّالِمونَ﴾.

وحين حكى القرآنُ قصَّة خروج آدم وحواء من الجنة لم يُلقِ المسؤوليةَ على حواء، كما جاء في التوراة والإنجيل المحرَّفَين، بل جعل المسؤولية مشتركة: ﴿فَدَلّاهُما بِغُرورٍ فَلَمّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَت لَهُما سَوآتُهُما وَطَفِقا يَخصِفانِ عَلَيهِما مِن وَرَقِ الجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَم أَنهَكُما عَن تِلكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَكُما إِنَّ الشَّيطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبينٌ﴾.

فليست لدينا أيّ خلفيَّة صراع وجوديّ بين الرجل والمرأة، لا في ثقافتنا العربية، ولا في ديننا. لذلك، فإن مشاركة أيّ مسلم في حملة مكافحة العنف ضدّ المرأة هو اغترارٌ بمزاعم أن هناك مشتركا بيننا وبينهم في هذا الأمر، وحين ننخدع بذلك، فإنهم سوف يدفعوننا لننزلق في الطريق نفسِه الذي انزلقوا فيه، وفقدت من خلاله المرأة أنوثتَها والرجل رجولتَه، وأصبح الناس عندهم سبعةَ أزواج، بعد أن خلقهم الله زوجَين اثنين.

نعم لدينا أخطاؤنا، وتجاوزاتنا للشرّع في التعامل مع الرجل، وفي التعامل مع المرأة، وفي التعامل مع الطّفل، لكن علاجُها ليس بالرقص في حلبَة الصراع الغربي بين الرجل والمرأة، وإنما في الوقوفِ عند حدود الله - عز وجل - التي حدَّها لنا في كتابه وسنَّة نبيَّه، صلى الله عليه وسلم.