تقدم إيران عيّنة حديثة عن أداء قديم، فالاعتداء على البنى التحتية المدنية في أبوظبي، بعد الإمعان في تلك الممارسات ضد المملكة العربية السعودية، يدلُّ على تمسك صاحب الشأن في طهران بمبدأ الازدواجية إزاء الداخل والخارج، والكبيرة والصغيرة. يفاوض أو بالأحرى يناور تفاوضيا مع السعودية في بغداد، لكنه يستمر في «عمله» المشكو منه، وكأن لا أحد أمامه ولا خلفه، بل مسار ثابت لا يتغير إلا بالقوة القاهرة!، ويستقبل مبعوثا إماراتيًا رفيع المستوى، راح إلى طهران بنيّة بنّاءة حسنة، للبحث في شؤون الحياة وشروطها، استنادا إلى كتاب المصلحة المتبادلة، والواقعية الجيو - سياسية، والعلاقات السوية والطبيعية بين الجيران، لكنه لا يتردد في ممارسة العدوان على دولة الضيف ما دامت مصلحته اقتضت ذلك!.

ازدواجية قديمة اعتمدها صاحب القرار الإيراني، ولا يزال، تبدأ من الداخل، حيث الدولة مشروع لم يكتمل بعد من جهة، والثورة التي لم تنته بعد من جهة ثانية، وحيث المؤسسات النظامية المعتادة توازيها مؤسسات ثورية، تملك ما لا تملكه الأولى!، وحيث وزارة الخارجية «تتعامل» مع المجتمع الدولي وفق شروطه وآلياته ونظمه وعاداته، بينما «الحرس الثوري» يستأنف مشروعه التوسعي بكل الآليات الممكنة، وهذه تتضمن على رأسها اعتماد وسائل غير شرعية ولا مشروعة، ولا علاقة لها بشيء من أشياء وبديهيات العلاقات الطبيعية بين الدول، ولا بالشرعيات الدستورية الحاكمة تلك العلاقات.

سبق أن مرت دول الخليج العربي عموما، والسعودية خصوصا، بتلك التجربة، وفتحت أكثر من مرة أبواب التفاهم الممكن مع طهران، ووسعت الاحتمالات باتجاهات التلاقي، وليس الصدام. لكن في كل مرة كانت الأفعال تنسف النيّات والمكشوفات، بحيث إن المحاور أو المفاوض العربي كان عليه أن يحكي مع «الدبلوماسي» الجالس قبالته، وفي الذهن أسئلة كبيرة:

من يمثل هذا الشخص؟ الدولة أم الثورة؟ وزارة الخارجية أم «الحرس»؟ رئيس الجمهورية أم «المرشد»؟، وهل يكفي توقيعه بالقلم على أي اتفاق أو التزام أو تفاهم، لضمان التنفيذ، أم أن البصمة الأخيرة هي في يد حامل الصاروخ والعبوة الناسفة وراعي أدوات مشروع التمدد التخريبي في غير أرضه؟.

تلك أسئلة ثبت بالمراس أنها في مكانها تماما، وليست هواجس شريرة، حيث إن الازدواجية في الأداء الرسمي الإيراني كانت دائما، ولا تزال، تعبيرا عن أحادية منهجية ثابتة، يحددها مرجع واحد، هو المرشد نفسه!. تختلف التعبيرات والأساليب والهويات المنفذة، لكن «المشروع» واحد، والجميع يعمل تحت سقفه، وكل من مكانه!. التفاوض قد يكون صادقا ومطلوبا في لحظته، فتُستدعى الدولة!، ثم تصير المصلحة في نسف ما أنتجه ذلك التفاوض، فتُستدعى الثورة!، وهذه في واقع الحال معضلة ومقتلة للداخل الإيراني كما للخارج العربي والأجنبي: تعاني أكثرية الإيرانيين أزمات معيشية حادة، وتردي القيمة الشرائية للعملة الوطنية، لكن موازنة التوسع الخارجي لا تعاني أزمة تمويل فتاكة، بل قدرة الأخصام والأعداء على الصمود والتصدي!، وعلى إفشال ما أمكن من ضروب ذلك الجموح التخريبي أينما نزل وحلّ!.

وفي النتيجة المزدوجة لذلك الضنى أن إيران «الدولة» عاجزة عن كفاية ناسها في الداخل، وإيران «الثورة» عاجزة عن إكمال أي بناء لها في الخارج! بل الذي لم يعد موضع نقاش أو جدال او خلاف هو أن التجربة الإيرانية، التي بدأت في 1979، لم تتمكن من تقديم بديل ناجح عن ذلك الذي ثارت عليه وضده!، ولم تستطع التعايش مع الواقع وحقائق الأرض والإمكانات، ولا مع عالم اليوم، بل سرحت طويلا، ولا تزال، في تخيلاتها وغيبياتها، وحملت أثقالا فوق قدرتها وقوتها، ولبست ثوبا فضفاضًا، كلما حاولت رتقه هرّ أكثر فأكثر، حتى تلاشى أو يكاد كاشفا المستور والمفضوح سواء بسواء!.

لا إيران صارت أفضل من أيام زمان الشاهنشاهي، ولا فلسطين عادت إلى أهلها، ولا العرب والمسلمون صاروا في مكان آخر أحسن وأفضل وأنضج، ولا العالم الواسع صار مقتنعًا بفضائل الإمبراطورية المطلوب إحياء عظامها الرميم، ولا الإسلام نفسه صار في منأى عن الأحكام الجاهزة والمقولبة، ولا صار أكثر قبولا وتفهما من رافضيه أو من غير أهله، ولا نهجا يعيد حقوقا مسلوبة أو يبني مثالا تعايشيا يغري الآخرين بشيء أو بحداثة أو بأسلوب حياة وعيش، بل العكس هو الصحيح!.

ليست دولة الإمارات العربية المتحدة، ولن تكون، أول أو آخر ضحايا المشروع الإيراني المستحيل، بل هي كانت، وستبقى، واحدة من الظواهر المثلى النقيضة لذلك المشروع، حيث الدولة والتنمية والعمران مرادفات ثقافة عيش وحياة أقرب إلى الله من الذين يدعون احتكار النطق باسمه جلّ جلاله!.