من الإجراءات الداخلية التي تُراقب عملية إنتاج الخطاب وتوزيعه واستهلاكه -لدى فوكو- «التعليق» أو «الشرح»، أي أنَّ لكُلّ ثقافة نُصوصا أساسية، تقرؤها وتؤولها وتعيد قراءتها (قد يكون مثالها -في الثقافة العربية- القرآن أو صحيح البخاري)، ثم تأتي النصوص الأخرى بصفتها شارحة أو مُعلقة لهذه النصوص الأساسية، ومن ثم يكون النصُّ الثانوي/المُعلِّق مؤكدا ما جاء في النص الأساس في وعي المتلقين، إلا أنَّ المفارقة أنَّ النصَ الثانوي -في اللاوعي- يُعبر عن ما لم يَقله النص الأساس، فيخترق حقيقةَ النصِّ ويخفف منها، وهذا ما قد يُفسر تشكّل خطابات أخرى من داخل الخطاب.

وفي لحظة وعيٍ ما، يحاول النص الثانوي أن يلتزم بالمنطوق؛ لنجده يقول ما قيل سابقا كتعاطي السلفية مثلا مع النصوص الأساسية، وهذا ما جعل السلفية عائقا لتحررِ انبثاق الخطابات، وكسر سلطة الخطاب الأساس.

أمّا علاقة هذا بالمعري، فمفهوم «التعليق» له دورٌ في تثبيتِ معرفةٍ ما أو سلطةٍ ما، إذ نجد حكاية -وردت في عدة مراجع، منها معجم «الأدباء» لياقوت- تقول: «حُكي عن المعري في الكتاب الذي أملاه وترجمه بـ«الفصول والغايات»، وكأنّه معارضة منه للسور والآيات، فقيل له: أين هذا من القرآن؟ فقال: لم تصقله المحاريب أربعمائة سنة».

في إجابةِ المعري -هنا- ما يُذكّرنا بالإجراء الداخلي (التعليق/الشرح) الذي مارسه «فوكو» في تشريحِ الخطاب، فظاهر نَصِّ المعري أنه يوازي بين القرآن والفصول والغايات كنصوص تُتداول وخاضعة للشرح والتعليق البشري، ومن ثم إعادة إنتاج معانيه.

إلا أنَّ المعري يبكي، وفوكو يضحك، وأعني أنَّ البكاء من داخل الظاهرة، والضحك من خارجها،

فـ«فوكو» يُراقب و«المعري» يُعاني، وهذا يعني -أيضا- أنَّنا لسنا أمام سابق ولاحق، كما يحب المتمركزون أن يحكوا عنها.

ومما يدل على بكاء المعري وألمه أنه كان يشير إلى تناقضٍ مع تسليم واستثناء، حين قال:

«تناقضٌ مالنا إلا السكوت له/ وأن نعوذَ بمولانا من النار. يد بخمس مئينٍ عسجدًا وديت/ ما بالها قطعت في ربع دينار»، أي أنَّ المعرّي حَمَل سؤالا مهما: ما معنى النص المتعالي؟ أو ما معنى أن يكون النص أوليًا؟ هل هو مجرد إيمان فحسب؟، وهذا ما قد يفسر اختلاف النقاد على أبي العلاء، وهو عدم لحظ السؤال الذي يجب أن يطرح أولا.

إلا أن هذه المقالة تركز على سؤال: هل يمكن أن تكون مقولة المعري تشير إلى ما استقرَّ في دواخل المجتمعات من أنَّ السلطة المعرفية أعطت كلمتها لتمييز ما هو نص أولي/إلهي، ونصوص ثانوية/بشرية؟ وكأنَّ المعري يُشير إلى معنى كون النصّ بشريًا، وذلك حين يكون خاضعًا للتعاقب الزمني، والتواتر المجتمعي، فيُرفع من شأنه حتى يصل إلى درجةِ القناعة بأنَّه متنٌ أولي/ غير بشري.

وسنكون أمام إشكالية - بحسب الضحك الفوكوي ضد البكاء المعري - وهو أنَّ مَن يستثني نصا من هذه الحركة التاريخية، فإنَّه وقع في شَرك نسقية الخطاب، في حين أنّه يَسعى للهرب منها ونقدها!، وهذا ما جرى لمن تملّكته النسقية، وجَعَل الثقافةَ تدور معها وإليها، إلا أنه يتخلص من النسقية حين يأتي إلى النصّ الأساس مع أنه يؤمن أنَّ النحوية والصرفية والبلاغية والسياقية لا يتحقق استقبال أي تعبير إلا بوجودها، لكنّه يُخلّص النص الأساس من حبائل هذا الاستقبال حين يجعله نصا أوليا، ويعطي للأولية معنى إيمانيا، ويسوغ ذلك نظريا بأنَّ النص الأولي هو الذي لم يتشرّب نصوصا سابقة، أنشئت من قِبَل بشر.

ولكي يخرج من المأزق -الاستقبال الضروري وأولية النص- فإنه يلجأ إلى تشبيه السابقين بنا الآن، أي أنه سيقول: أعني نصوصا أنشأها سالفون كانوا مثلنا يتشربون من سبقهم، ويتدرجون في تملك مهارة الكتابة، ونعرف تدرجهم، وهذا لكي يجعل النصَّ بلا قائل معلوم مع أنَّ النص الأساس يُلقي بدلالات سابقة، ومعانٍ لاحقة، وهذا معنى وجود قائله -المعلوم- المرتبط بالتوارث، سواء كان ممتدا أم انحرف عن مساره، ففي كليهما نحن أمام نص تاريخي، وهذا الشرط -منه- كان منفذا من منافذ الهروب من مأزق: كيف نجمع بين الإيمان بالإسناد الديني بمفهومه الفلسفي ونظرية التطور مثلا؟، لأنَّ النصَّ الأولي هنا هو صناعة ذلك المجتمع وظروفه التاريخية، أي أنَّ النص شريك الحركة التاريخية المتغيرة، ولنا أن نتخيل لو قلنا عن نص محمود درويش «إنه نصٌ أولي»، لأنه لم يتوارث النسقية بشكلٍ مُضمرٍ، ومن ثم هل يمكن أن يكون نصا متعاليا؟! لم يُجعل نَصا مُتعاليا، لأنه لم يقع في شَرك الإشكال في اللاوعي، بل اعتُبر نصُّ درويش تَحديا للوعي النسقي فقط، ومن ثم وجب تطوير النظريات النقدية فحسب.

ومن ثمَّ، فإنَّ هذه إحدى حيل النسقية، التفّت على معتنقها، وعادت ضاحكة.

ومن هنا، فإنَّ مفهوم النص الأساس له وقعُه مع تحولات الخطاب، أي أنَّ لفظ الأولي أو الإلهي يُعطى لنصوص أخرى لا بصفتها إلهية في الوعي، بل بصفتها إلهية في اللاوعي، ومن هنا أتت أهمية استعادة قول المعري، لتعرية تحولات القوانين التي تتأسَّس بناءً على أعرافٍ راسخة، ومن ثمَّ الردع باسمها، لأنَّ تلك الأعراف معقودة بمبادئ إلهية في اللاوعي، فمثلا حين يُوضع قانون للذوق العام، فإننا أمامَ نبذٍ عُرفي لأفرادٍ اختاروا سُبلًا في المعيشة، وحياة مغايرة، ولم يكن القانون -هنا- إلا متحورا لصيغٍ مُختلفة، فيأتي السؤال: ما الغاية من العقاب لمن كانَ مختلفا عن تلك الرؤى الأبوية؟!، وبحسب الإجابة ندخل دهاليز مختلفة.

وأخيرا.. من المفارقة أن يكون الذكاء الاصطناعي نافيا لجنس «السخرية الأدبية» حين يلتقط في «فيس بوك» - مثلا - ألفاظا مبرمجة - لديه - على أنها إساءة!.

عمى الـ«فيس بوك» هنا كعمى ما يبنى على أعراف راسخة.