تلاحظ بعض الأحيان مشاهد وتفاصيل صغيرة في حياتك، تشدك بشكل ما، ما يجعلك تسقطها على أمر من أمور الحياة. هذا الشيء يسمى الاستنباط، وهو دلالة على زيادة نشاطك العقلي في التفكير ما يوصلك لأفكار بعيدة، لا تشبه أفكار من يعيشون حولك.

«ماكريجور» أحد علماء السلوك الإداري، استنبط نظريته الشهيرة (المدفأة المتوهجة)، من جلوسه في إحدى ليالي الشتاء، أمام مدفأة بيته. نظرية جميلة ولا تزال تدرس لطلاب الإدارة والاجتماع والسياسة، ولها عدد من الأبعاد التي يمكن الاستفادة منها.

أحد الأصدقاء المشتغلين والغارقين في علوم الإدارة يقول: أنه كان يسير بسيارته في طريق ضيق ومزدحم، ولفت نظره أن إحدى الشاحنات تسير في المسار الأوسط، مسببة نوعًا من الازدحام في الطريق. يقول: لما تجاوزتها، شاهدت بعد مسافة ليست قصيرة شاحنة أخرى متعطلة على المسار الأيمن، فأدركت أن قائد الشاحنة التي خلفي انتبه لوجود أخرى متوقفة أمامه، وقرر بأنه لو سار على الطريق الأيمن، فسوف يتسبب بخانقة مرورية أكبر إذا ما وصل إليها.

سألته، وماذا استنتجت؟ قال استنتجت أنني يجب أن أقود حياتي مثل ما قاد هذا السائق شاحنته! ثم استرسل في شرحه؟: إن قائد الشاحنة مرتفع عن السيارات الصغيرة التي تعتبر الأكثر في الشوارع، لذلك يرى أبعد مما يراه السائقون الآخرون، وهذا ما يجب أن أفعله. يجب عليّ أن أرتفع بنظري حول الأشياء المحيطة بي والقريبة مني، وأن أستشرف المستقبل، وأحاول أن أشاهد أبعاد وتحولات بعض الطرق التي نسير فيها، ولا أغرق في التفاصيل اليومية.

ثانيًا: قائد الشاحنة لا يستطيع أن يسرع ويتحرك يمينًا ويسارًا وبسرعة، لذا يعيش بنوع من الهدوء والاتزان، ويجب أن أكون مثله. يجب أن تكون تحركاتي واتخاذي لقراراتي باتخاذه نفسه لقراراته، عند الالتفاف لليمين أو لليسار، لأنه قبل أن يلتف، هو يفكر ثم يشاهد انعكاسات قراراته على السيارات المحيطة به.

ثالثًا: قائد الشاحنة يدرك قيمته، لذا فإنه لا يتحرك في الشوارع من أجل أشياء بسيطة وصغيرة يمكن نقلها بسيارات أصغر وأسهل وأسرع. وعندما يتحرك فإنه يتحرك من أجل نقل أشياء تفيد بإنتاج شيء ما، أو تساعد على صناعة أمر هنا أو هناك. وهذا ما يجب أن أحاول أن أربط حياتي به، ليس بالطبع بكل أمور حياتي، ولكن تلك الأمور التي تصنع حضوري ووجودي.

انتهى من استرساله في الحديث، ووجدت أن كلامه فيه نوعٌ من المنطق، ولكني سألته: هل يمكن في غمرة الحياة أن يفصل عقله المفكر عن عقله الغارق في التفاصيل؟ وسألته: لو قيّم وضعه بناء على الاستشراف المستقبلي نتيجة لارتفاع تفكيره؛ ما الذي يضمن عدم انفصاله عن الواقع الذي هو فيه؟ وكذلك سألته: عندما يتحرك ببطء، هل هذا البطء يأتيه بنتيجة جيدة، أو سوف يذهب عنه الفرص؟

تناقشنا قليلًا، وفي النهاية اتفقنا على أن الأفكار الجيدة هي دائمًا ما تصنع الحياة الجيدة، ولكنها ليست بالضرورة متاحة للتطبيق على أي حال.