في عصر مجتمع السوق الاستهلاكي كان للجسد البشري نصيب وافر من الاهتمام والعناية من قِبل أرباب السوق، وحضور طاغٍ في ثقافة المستهلك، بوصفه حاملا قيما رمزية، ومعبرا عن ثقافة العصر التي تولي مظهر الجسد عناية فائقة، فالقنوات الفضائية والصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي تعج بمختلف المواد عن صورة الجسد، حتى صار الجسد مشروعا اقتصاديا قادرا على توليد الثروة ورأس المال، فاليوم المشاريع الاقتصادية المتعلقة بصحة الجسد ونضارته مثل العمليات الجراحية والتجميلية وكمال الأجسام والمكملات الغذائية وبرامج الحمية واللياقة تشهد نموا متصاعدا في أغلب دول العالم.

لقد مكن العلم الحديث من زيادة درجة التحكم في الجسد، وإعادة بنائه جذريا، مما يجعل الجسد يبدو فتيا ومثيرا وفاتنا، حيث أصبح في مجتمع السوق الاستهلاكي أداة لتشكيل الذات، ومكنت الجراحة التجميلية عددا متعاظما من الناس من إعادة تشكيل أكثر مباشرة وحسما لأجسادهم مثل شد الوجه وشفط الدهون وعمليات تجميل الأنف والذقن، وقد تصل إلى مستوى متطرف كحالة المغني الأمريكي مايكل جاكسون الذي أجرى تغييرات جوهرية في جسده.

لقد وصل العلم لمرحلة متقدمة من السيطرة على الجسد الظاهري، والتحكم به وقولبته وإعادة تشكيله، فالأجساد البشرية في عصر العلم الحديث أصبحت ترضخ لقوانين السوق، ومقاييس العرض والطلب، وأصبحت هناك شركات متعددة الجنسيات منتشرة في كل دول العالم تبيع المنتجات الاستهلاكية الخاصة بالجسد والعناية به.


إن التطورات الاقتصادية التي يعيشها العالم قد صنعت وعيا جديدا بالجسد، بوصفه صانعا للذات، وقلصت كل القيود الاجتماعية والدينية المتعلقة بالجسد لكلا الجنسين، فالسوق اليوم هو صانع القيم والمعايير الخاصة بالجسد بعد أن نزع عن الجسد قداسته، وحرره من قيوده الثقافية والدينية، وأغرقه في حالة عميقة من النسبية الشاملة.

دعونا نأخذ مقتطفات من رواية «الرواية» للكاتبة المصرية المثيرة للجدل نوال السعداوي، تصف فيها قصة بطلة الرواية مع صديقتها «أناجيل» في جولة على أحد شواطئ مدينة برشلونة:

«تأخذها أناجيل إلى شاطئ آخر لا يرتدي فيه الناس المايوه.. تسري الأشعة الذهبية الدافئة إلى الجسد كله.. نساء ورجال يسبحون في البحر كالأسماك.. يتمددون تحت الشمس دون غطاء.. لا أحد ينظر إلى أحد.. يتحركون على نحو طبيعي كما ولدتهم أمهاتهم.. أقدامهم تترك على الرمال علامات متشابهة.. لا فرق بين ذكر وأنثى وفقير وغني وأسود وأبيض».

تصف نوال السعداوي، دون قصد منها، حالة النسبية التي وصلت إليها المجتمعات الغربية، حيث طرأ على المجتمعات الحديثة اهتمام جماهيري بالجسد بعد تحررها من كل القيود الثقافية والأعراف الاجتماعية التي سيكون لها أثرها الواضح على مشاريع الجسد، وستخلق حاجات جديدة لم تكن ضرورية في السابق، وستزدهر أندية كمال الأجسام للرجال والنساء، ويزداد الطلب على إجراء عمليات التجميل، ومبيعات المكملات الغذائية، لصيانة الجسد ورعايته وتحسينه، فالعلم الحديث أصبح قادرا بصورة مقلقة على التدخل بالجسد البشري، والسيطرة عليه، وتغيير صورته، وإعادة هيكلته سطحيا، بل أحيانا التدخل في الأعضاء التناسلية للإنسان.

أصبح «الجسد الفاتن» حلم كل فتاة، والجسد المتناسق المتصف بالفتوة حلم كل شاب. ولتحقيق تلك الأحلام، فإن السوق يقدم خدماته الجليلة بعد أن خلق حاجات جديدة، أصبحت من ضرورات العصر، تتعلق بصحة ونضارة الجسد. ولا شك أن الجسد البشري يشيخ ويتفسخ، والموت هو النهاية الحتمية لكل إنسان، ولكن هذا لا يقلل من أهميته في عصر المجتمعات الاستهلاكية.. عصر الصورة والدعاية التي تحيط بالإنسان من كل اتجاه.