في يوم خالد من أيام القضاء السعودي، وفي خطوة جديدة تضاف إلى سلسلة الخطوات الطويلة التي قطعتها وزارة العدل لتطوير النظام القضائي في المملكة، والاستفادة من تقنيات الذكاء الاصطناعي التي سخرتها المملكة للوصول إلى التحول الرقمي الكامل الذي أقرته رؤية المملكة 2030، دشن وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني الاحد الماضي المحكمة الافتراضية للتنفيذ، في تأكيد جديد على تواصل الثورة التشريعية المتكاملة التي تشهدها بلادنا في هذا العهد الزاهر تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله - وأن مسيرة التحديث والتطوير ستشمل كافة جوانب هذا المرفق الهام الذي يمس حياة الناس بصورة مباشرة. تشرفت بحضور الحدث الذي كان مبهرًا وحظي بتنظيم في غاية الدقة، ولا أستطيع وصف مقدار الفخر الذي شعرت به، والاطمئنان الذي ملأ جوانحي بأن حقوق الناس مصونة في هذه البلاد المباركة التي قامت أولا على العدل وإقرار الحقوق وضمانها، والتي لا يشغل بال القائمين عليها سوى إزالة المظالم وتحقيق العدالة الناجزة.

وإن كانت القوانين تعمل على ضمان الحقوق عبر إصدار التشريعات واستكمالها، وتنظيم الإجراءات وضبطها، فإن الفائدة لا تكتمل قطعا إلا بالتنفيذ واسترداد المستحقات، وهو ما فطنت إليه الجهات المختصة التي ركزت على هذه الجزئية لأنها تمثل تتويجًا لجميع الإجراءات التي تسبقها، وهي الغاية التي تحققها المحكمة الافتراضية الجديدة. لن يكون هناك بعد اليوم أي فرصة للمماطلة والتسويف وإهدار وقت المتقاضين، فالإجراءات حسب المحكمة الافتراضية تتم بصورة مؤتمتة بالكامل، وتختصر الوقت والجهد، وتتيح لكل صاحب حق بأن يناله عزيزًا مكرما، دون إهدار وقته في التنقل بين المكاتب واللهث وراء الإجراءات، فالمشروع يؤسس لاستخدام التقنيات الحديثة ويسخرها لخدمة الإنسان، ويضمن تحقيق العدالة الناجزة وسرعة إيصال الحق لصاحبه.

حتى من يتم التنفيذ ضده سيناله قسط كبير من المنافع التي تحملها المحكمة الافتراضية، حيث لا يوجد إيقاف للخدمات في وزارة العدل، سوى منع التعامل المالي المرتبط بالحسابات المالية والعقارات. كذلك تحصيل الحقوق سوف يتم بصورة إلكترونية كاملة على أن يكون إنهاء التعامل بالشيكات.

من المكاسب الكبيرة التي يحققها النظام الجديد، إضافة إلى سرعة التنفيذ، أن جميع التعامل يتم بصورة آلية، بدءا من قبول وتدقيق الطلبات، وحتى الوصول إلى مرحلة إصدار الإجراءات التنفيذية والتنفيذ الفعلي على أرض الواقع. كل ذلك يحدث بدون أي تدخل بشري، وعلى مدار الساعة وطوال أيام الأسبوع وهو ما يضمن العدالة التامة في مراحل العملية كافة، سواء من حيث قبول الطلبات وتحديد المواعيد وحتى استرداد الحقوق.

كذلك تغني المحكمة الافتراضية أصحاب الحقوق عن مشقة مطاردة المدينين والاضطرار إلى السفر لمقاضاتهم، وتجنبهم كذلك المماطلة التي يلجأ إليها البعض للتهرب من أداء الحقوق، سواء بالتغيب عن الجلسات لأعذار واهية أو تقديم طلبات واستشكالات بهدف إطالة أمد التقاضي. كل تلك الممارسات كانت تقلل بالتأكيد من كفاءة النظام القضائي، وتزيد من التكاليف، وتتسبب في تعقيد الإجراءات القانونية والإدارية، للدرجة التي تدخل اليأس في قلوب البعض من إمكانية الحصول على حقوقهم، وتدفعهم للتخلي عنها لأن مصاريف السعي وراءها قد تفوق قيمتها في بعض الأحيان. لكن هذه المبادرة التي تشكل نقلة نوعية في طريق التحول الرقمي الذي تسعى إليه الدولة في أجهزتها ومؤسساتها كافة، تقضي على تلك المخاوف، وتجعل العدالة في متناول الجميع، وتتيح لكل صاحب حق الحصول على مستحقاته دون إهدار الوقت في إجراءات روتينية، كما تقضي على حالة التكدس التي تشهدها المحاكم وتقلل المنصرفات. ولأن المملكة تسير وفق خطة متكاملة لتطوير منظومتها القضائية فقد كان من الضروري أن تترافق الثورة التشريعية الهائلة التي تشهدها في الوقت الحالي مع استخدام الوسائل التقنية الحديثة، حتى تكون المخرجات بالصورة المطلوبة. ففي الوقت الذي تواصل فيه اللجان المهنية المختصة تنقيح وتطوير واستكمال مشاريع القوانين الجديدة تجري كذلك عملية تطوير وتأهيل شاملة للكوادر البشرية العاملة في هذا المرفق الحساس، كما يتم إدخال وسائل التقنية المتطورة. كل هذا يحدث وفق عملية تطوير شاملة ومتكاملة تقف وراءها الدولة على أعلى مستوياتها، لذلك كان من الطبيعي أن تكون النتائج على هذه الدرجة المتميزة من التطور والإجادة. الفائدة الكبرى من وجهة نظري، إضافة إلى تحقيق العدالة للجميع، وهي مبدأ أساسي في ديننا وتراثنا القضائي السعودي العريق، هي أن المحكمة الافتراضية للتنفيذ تقدم المملكة في صورة مثالية لأصحاب رؤوس الأموال الأجنبية الذين يبحثون عن بيئة مثالية يطمئنون فيها إلى أن هناك من يحرص على ضمان حقوقهم والحفاظ على مكتسباتهم. وأنهم لن يضيعوا وقتهم الثمين في السعي وراء إجراءات روتينية معقدة. لذلك أتوقع أن تشهد بلادنا خلال الفترة المقبلة إقبالًا متزايدًا من المستثمرين الذين سيتجاوبون حتما مع الجهود التي تبذلها القيادة الرشيدة في سبيل تهيئة الظروف المواتية لإحداث النهضة الاقتصادية، وستكون هذه الجهود التشريعية والقضائية رافدًا مهمًا يضاف إلى الامتيازات الأخرى المتمثلة في اكتمال البنية التحتية وسائر عوامل الجذب الاقتصادي الأخرى.

هذا التوجه الحميد سوف ينعكس حتما خيرًا وفيرًا على المملكة في المستقبل القريب، لأن الدول التي يولي قادتها أقصى عنايتهم لتطوير منظومتها القضائية، ويظهرون أعظم الاهتمام لضمان حقوق جميع الأطراف، ويبذلون الغالي والنفيس لأجل الوصول إلى العدالة، هي دول سيكون مكانها الطبيعي التقدم والرفعة، والمكانة اللائقة بهذه البلاد العظيمة.