كتابي «موسم الهجرة إلى الشمال» المتواضع يدهشني حقا، كما يدهشني كل هذا الاهتمام به، ولا أقول ذلك من قبيل التواضع المزيف ولكن بإخلاص.

هذا الاهتمام بشخصي الضعيف ما كنت أدري أنه سيتحول إلى طروحات جامعية، مواد تأخذ من وقتكم الثمين ما أخذت.

وللحقيقة، فالكاتب مخلوق غريب في ساحة الإبداع، غريب إلى حد ما في هذا العالم، غريب إزاء نفسه. لأن الرسام مثلا يرى رأي العين نتيجة ما يفعل، مثله أيضا المهندس والنجار، والحداد... الخ، أما هذا المخلوق الذي يتعامل مع الكلمات، في هذه الأجواء الغامضة، فيجلس وحده ليلا أو نهاراً يواجه أوراقاً بيضاء، ويحاول أن يعيد صياغة العالم أو تشكيله، أنا أسأل بكل تواضع ما معنى إعادة تشكيل العالم؟


إذا كنت أقوم فعلا «بإعادة تشكيل هذا العالم بعد تفتيته»، فإنه أمر يدهشني غاية الدهشة.

هل قمت بهذا العمل الكبير؟ إذا كنت قد فعلت، فإنني آخر من يعلم ما فعلت. لذلك أقول بإخلاص، وليس من قبيل المزاح، تخامرني بعض الدهشة، لأنني ربما أهم بقليل مما أظن، أو لعل الناس أحسن ظناً بي، ولذلك ليس عندي أفكار مرتبة ومنطق وفلسفة أقدمها.

السؤال الذي يوجه عادة هو أنني أشبه شخصية معينة في هذه الرواية أو تلك، وقضية الكاتب والإبداع، والسيرة الذاتية، مسائل طويلة شغلت بعض الباحثين والناقدين، وأهل العلم أدرى بها مني.

لن ينكر أحد بأن الكاتب موجود فيما يكتب، وبالتالي لا أستطيع أن أقول إن ما أكتبه مجرد تماماً، وبعيد عن آرائي وأحاسيسي، لكن المشكلة هل الكاتب يعبر عن ذاته في شخصية بعينها، أم يثير أفكاره وأحاسيسه في هذه الشخصيات.

هل الكاتب يعبر عن فأله في شخصية؟ الكاتب في نهاية الأمر يريد أن يقدم أفكاره حتى المتناقضة منها، ولكن الكاتب ما هو إلا بشر مثل أي إنسان عادي، يرى اليوم شيئاً وربما يغيره غدا، وأعترف بكل إخلاص أنني لم أتعمد أن أقدم شخصية تمثل حياتي بحذافيرها، ولكنني قدمت شخصيات مختلفة.

وأعجب حينما يقال إنني أشبه شخصية «مصطفى سعيد، في رواية موسم الهجرة إلى الشمال، لقد قدمت «الزين» في رواية «عرس الزين»، وقدمت «محجوب» في «مريود»، واختياري لهذا إنما يعود إلى وجود عناصر شبه قربية بيني وبينها،ـ لكن عناصر الشبه هذه تنطبق على آلاف العرب.

أنا قدمت أحاسيسي، في فترة محددة قدمت طموحاتي، أحلامي على مدى هذه الشخصيات على علاتها، ولكني لا أظن بأنني قدمت شخصية لتكون موازية لي في ما أكتب.

في «موسم الهجرة الى الشمال»، المأساة ليست هي صورة الأدب كله، بل إن بعض أجمل الأدب ما ليس بمأساة على الأقل. فلو استطعت، أنا، ككاتب، أن أعبر عن آرائي في قالب غير مأساوي، بل مازح، لفعلت ذلك. لكنني أحس بتأرجح بين طرفي نقيض، في المسافة بين عالمي «عرس الزين»، و «موسم الهجرة إلى الشمال».

وأترك لكم ما تستنتجون، لأنني أكتب أشياء مبهمة أحياناً، وفي أخرى أشياء مأساوية.

أما أن يكون الأدب محض مأساة، فلا أظن ذلك، وأرجو ألا يكون، مثلما أرجو ألا يفهم من كلامي بأني أستخف بدوري المتواضع ككاتب، فقصدي أن لا آخذ نفسي مأخذ الجد، وهذا، بالنسبة لي، مهم جداً.

إن الكاتب، أو المبدع، مهما كان، الذي يأخذ نفسه مأخذ الجد، فإنما يطالب العالم أن يعامله كشيء مهم ومختلف، وجدير بالاحترام أكثر مما يقدمه لغيره.

إذا كان الآخرون قد قدموا هذا الاحترام، وأنا سعيد بذلك، فقد جرى الأمر دون أن أسعى إليه.

يبدو لي أن هناك عذابات للإبداع، وعندي الوسيلة التي أدرب نفسي عليها، وهي أن أعيش بين الناس كشخص عادي.

وأقول بكل أمانة، كإنسان، إنني أحب أن أهرب من المأساة.

في موسم الهجرة، قلت بوجود وهم أوروبي، ووهم عربي على وجه التحديد، لأن كلمة شرق لا تعني أي شيء. ومن ضمن الأوهام التي أضفيناها على علاقتنا قبولنا على أننا «شرق» أي شرق؟ شرق ماذا؟ وغير صحيح أن أوروبا والإنجليزية أو الفرنسية، لها محتوى ما، الصراع في «موسم الهجرة إلى الشمال «صراع بين أوهام، لأننا نريد في نهاية الأمر أن نقيم علاقة سوية، فنحن كبشر لنا خصائصنا، ولنا مكاننا، ووضعنا، ونظرتنا المعينة إلى العالم، وبخاصة إلى أوروبا التي تشغلنا أكثر من أي مكان آخر.

وأعتقد بعد موسم الهجرة إلى الشمال، - إذا قبلتم هذا ـ أنني كنت من أوائل الكتاب العرب الذين قدموا تحديا لهذا الوهم، لأنه لم يكن ثمة أدنى شك في ذهني بأن هذه العلاقة علاقة مزيفة، ولا يمكن أن ينتج عنها أي فائدة.

وقد جاء أساتذة، مثل إدوارد سعيد، الذي كتب كتابه الممتاز «الاستشراق» وتعرض لهذه القضية باستفاضة، وكيف أن الغرب قد صاغ صورة ليست حقيقية، بل صورة أرادها هو ليقيم علاقة مع هذا الوهم.

أنا لا أقول إطلاقاً بأنه لا يمكن لنا التعامل مع أوروبا، لأن في ذلك إنكاراً للدور الحضاري الذي قامت به، وما تزال تقوم به.

1983*

* كاتب وروائي سوداني» 1929 - 2009".