قد لا نعي في كل مرة نرسل فيها رسالة عبر أحد تطبيقات التواصل الاجتماعي، أو نشتري وجبة من مطعم أو نبرم عقدا مع أي مؤسسة تجارية، أو نجري بحثا في محرك البحث غوغل، أو نكتب تغريدة عابرة في تويتر، بأننا نترك آثارا رقمية تتحول مع مرور الوقت إلى بيانات ضخمة (Big Data) يمكن توظيفها للتنبؤ بما يرغب الناس بشرائه في المستقبل، أو تستغلها الشركات لتسويق منتجاتها، وتوسيع نطاق مشترياتها، بل ويستثمرها صانعو القرار في اتخاذ القرارات السليمة ورسم السياسات الإستراتيجية لتحقيق أهدافهم. هذه البيانات الضخمة يساهم في بنائها ملايين الناس بما يتركونه من آثار تمثل ذاكرة رقمية للعالم المادي.

البيانات الضخمة هي ذات حجم هائل لا يمكن معالجتها بالطرق التقليدية، لذا تحتاج لأساليب حديثة ومتطورة لمعالجتها وتحليلها. وما كان لها أن تحقق هذه الأهمية اليوم لو لا أنها أصبحت تخدم السوق الاستهلاكية، وتحرض الناس على المزيد من الشراء من خلال قدرتها على تحليل سلوك الإنسان وتفاعله مع محيطه، وقدرتها على كشف الأنماط المخفية التي تساعد على فهم اتجاهات السوق أو مشاعر الجماهير وما يرغبونه.

دخلت البيانات عالم اللغويات، كون مهارات اللغة البشرية أداة مهمة للتأثير في الناس وتوجيه عقولهم، ولعل أبلغ دليل ارتباط اللغة في الدراسات اللسانية الغربية اليوم بالدماغ، فأصبح هناك تلازم كبير بين اللغة والدماغ، أو اللغة والذهن أو اللغة والعقل، وهذا الارتباط بينهما له محفزاته وموجهاته القوية، وأهمها توجيه عقول الجماهير أو تحفيزها نحو المزيد من الاستهلاك، أو توجيه العقول لتبني مشاعر معينة تجاه قضية ما بواسطة اللغة أو تحليل المشاعر عبر البيانات الضخمة.

لو دققنا النظر في واحدة من أهم الجمل السياسية بالعقد الأخير لكثرة ترددها وتأثيرها البليغ في الناس، إنها مصطلح الإعلام المزيف (Fake News) التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب ضد وسائل الإعلام الأمريكي التقليدي التي تسيطر على الرأي العام الأمريكي. مصطلح (Fake News) لم تكن كلمة عابرة أطلقها ترامب بشكل عفوي بل هي كلمة مقصودة بهدف زعزعة الثقة بوسائل الإعلام الكبرى، وبالتالي السيطرة على الرأي العام عبر توجيه الأنظار لحساب الرئيس الأمريكي في منصة تويتر ليصبح مصدرا موثوقا لأنصاره. حيث يقوم المستشارون أصحاب القدرة على تحليل البيانات من خلف الستار بطرح خوارزمياتهم بهدف صناعة وعي جديد أو تخريبه أو توجيهه لتبني مشاعر معينة، وهذا ما نجح به عمليا ترمب، حيث أصبح حسابه في تويتر مصدرا للتواصل مع الأنصار والتأثير فيهم.

أصبحت السوق الاستهلاكية توجه الدراسات اللسانية والعقول والاهتمامات، وفي البلدان الغربية أخذ الاهتمام بتحليل البيانات الضخمة يتزايد لما تحويه من قيمة كامنة وغير موضوعة في الحسبان، يمكن توظيفها لأغراض غير أخلاقية وغير إنسانية. قدرات السوق الاستهلاكية لم يعد بالإمكان كبح جماحها حتى أصبحت تسيطر على الإنسان، وتسلبه حريته وقدرته على العيش دون إكراهات، فنحن اليوم نعيش وفق متطلبات السوق وقيمها ومبادئها ونتأثر بقواها الناعمة.