لا يفاجئ أحدًا خطاب جماعة الممانعة الانتخابي؛ فهو مثل خطابها السياسي المدرّع باليقين الخاص، والمشبّع بالعداء للآخر المختلف، والمليء بذاته باعتبارها ذاتا تامة كافية، ولا تحتاج إلى أي إضافات ولا تبريرات ولا مقويات!، هي الذات الفضلى والمالكة الحصرية لكل الحق، فيما غيرها هو كل الغلط وكل الشطط وكل الشر، ولا يختلف ذلك الغير، في عرفها ومنطقها، بهويته ولا نوعه ولا «عرقه» ولا غاياته، يكفي أنه على الجانب الآخر المواجه لها، كي يحظى بمرتبة الشيطنة الفضلى تلك، وكي يكون هدفًا للإمحاء والإلغاء.

ولا مراتب في ذلك الخطاب.. الكل المختلف ينضوي تحت مرمى مفرداته ولغوياته وأحكامه الصارمة والمبرمة، الخصومة المحلية ليست واردة فيه، إنما العداوة المكشوفة والمنجزة، ولا فرق هنا بين عدو خارجي وآخر داخلي! ولا لحظ لتمايزات، ولا مكان لاستطرادات غير مأنوسة، خصوصا إذا كانت من نوع أن الانتخابات النيابية مثلا تجري داخل دولة واحدة، وعند شعب واحد، وفي ظل نظام واحد، والخصومة فيها عادية ومن ضرورات التعبئة والتحشيد، وهذه في جملتها وكليتها، تختلف بطبيعة الحال واستنادًا إلى بديهيات المنطق البسيط والمعقّد عن المواجهات الضارية مع عدو على الحدود فيه كل «أسباب» العداوة وشروطها!

حزب إيران كان ولا يزال سبّاقًا في أدائه ذاك إزاء الداخل الوطني اللبناني، وإزاء كل قضية مطروحة أمام عموم اللبنانيين، وتوتره الدائم كان ولا يزال عنوان ذلك الأداء، وتعبيرات توتره هذا تأخذه إلى غلاظة القول واستسهال التخوين، واعتبار التحشيد المذهبي تارة و«المقاوم» تارة أخرى، أمرًا عاديًا وتلقائيًا طالما أنه ينتج عن يقين لا تشوبه شائبة، وموجّه إلى آخر مختلف و«مخطئ»، ولا تشوب خطيئته شائبة أيضا! وانعدام المراتب في نهج العداوة يعني أن «العدو» يمكن أن يكون، في الداخل، وداخل الداخل! في السياسة والانتخابات والرؤى والأفكار وعادات العيش وطبيعته، وهذا يعني أن الواقف على الجانب الآخر هو «في العادة» مختلف مذهبيًا وطائفيًا وسياسيًا مثلما الحال في لبناننا العزيز..

لكن المحنة الراهنة لا تقف عند هذا الحد بل تصل إلى اعتبار كل مرشح للانتخابات النيابية حتى من ضمن الطائفة والمذهب، «حائزًا شرعًا» على الشروط التي تؤهله لعضوية نادي الأعداء!

وفي راهن الأمر ظهرت فيما يسمى حملات انتخابية قصص كثيرة عن تهديدات واستهدافات ميدانية لمرشحين من خارج المألوف الممانع، وعلى الضد من حزب إيران وتوجهاته وسياساته، وظهرت في موازاتها حملة أشمل وأوسع طالت المصطفين الدائمين على الجانب الآخر، منذ العام 2005، وجريمة اغتيال الرئيس الراحل الشهيد رفيق الحريري، وفي الحالتين أداء واحد: الصف المضاد يعمل في «خدمة» إسرائيل!

ومن يقترع لرموزه ومرشحيه وخطه «إنما يقترع لإسرائيل وأمريكا وداعش»! ولا شيء يفاجئ في ذلك الخطاب، ولا جديد فيه سوى أنه تمدد من حزب إيران إلى حلفائه، وصار هؤلاء في غالبيتهم ينهلون من مفرداته وغلاظته وغرابته ويوجهونها صوب الآخرين في داخل الداخل!، وفي هذا ابتذال ومحاكاة لقصة الذي فشل في أن يقلد عادات غيره، فنسي عادته ولم يحصد في الحالتين سوى الخزي!

واللافت في الأداء العمومي للجماعة الممانعة في الحملة الانتخابية الراهنة هو التوتر الزائد عن المألوف، وكأنها مهزومة وهي تدعي الانتصار، أو كأنها تخاف من الناس وهي تدعي حمايتهم!

أو كأنها تخشى انكشاف هشاشتها الداخلية وهي التي تظهر على الخارج ببنية مصارع !، أو كأنها تعرف في العمق والحقيقة أن خياراتها وسياساتها وارتباطاتها الإيرانية أوصلت اللبنانيين ومن ضمنهم جمهورها إلى العوز وليس العز! وإلى الذل وليس الفخر! وإلى الحضيض وليس العلى! وإلى الدمار وليس الإعمار! وإلى أشياء أخرى كثيرة تناقض سيرة الأمجاد والانتصارات الإلهية، وتتوجس بالتالي من انكشاف ذلك كله في صناديق الاقتراع وبقوة الصوت العاري!.

ثم يصحّ الظن بأن الجماعة إياها المسلحة والمدرعة والمؤدلجة، تشعر بالتوتر لأنها مضطرة لأن تنخرط في عملية سياسية «مدنية» في ظل نظام لا تؤمن به! ولا تستطيع الانقلاب عليه بقوة السلاح وفي الوقت نفسه تسعى إلى اكتساب «شرعيته»، تساير المناخ العام ولا تسير في ظلّه!

وتشارك في «اللعبة» ولا تحترم قواعدها، وإذا خانتها النتيجة رجعت فورًا إلى طبيعتها الأولى الذاتية والمغلقة والعصية على التطبيع المدني والسلمي والتعددي!

وهذه والحق يقال، محنة جماعات الإسلام السياسي أينما كانت، وفي ظل أي نظام اشتغلت، وفي داخل أي مجتمع سعت، لكن المفارقة عندنا (والفرادة) هي أن الإسلام السياسي صار يشتمل على تيارات وشخصيات غير إسلامية! تشتغل عندها وتنضوي تحت جناحها وتسعى في فيئها إلى أمجاد الانتصارات النيابية والرئاسية والامتيازات المتأتية عنها سلطويًا وماليًا!.

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير