لم تحضر المدن بقيمها ونمطها المعيشي المتسارع وإكراهاتها الثقافية في حياة الإنسان، بهذه الكثافة والإلحاح والقدرة على التنميط كما نعيشه اليوم.

وإن كانت الحياة المدينية قد تشكلت في حياة الشعوب السابقة كما هو الحال عند الشعوب العربية في العصر العباسي.

وقد أخذت تجليات المدينة تظهر في آداب الشعوب وحكاياتها وأساطيرها. ففي «مقامات الحريري» التي تمثل درة أدبية نفيسة وبطلها المحتال أبو زيد السروجي، رأينا حالة الاغتراب والترحال الدائم بين المدن التي تعرض لها أبطال المقامات.

فكل مقامة حملت اسم مدينة، هناك المقامة الصنعانية والدمشقية والدمياطية والكوفية والإسكندرانية والمكية والشيرازية والحلبية، وغيرها من المقامات التي ارتبطت بأسماء المدن، وكأن الحريري، كاتب المقامات، يريد أن يسلط الضوء على تمظهر المدينة وأثرها النفسي القاسي في سكانها.

تدور أحداث المقامات حول ظاهرة الاحتيال وبطلها المحتال ساكن المدينة أبو زيد السروجي، الذي يمتلك سلاح البلاغة والبيان للتأثير في ضحاياه، ويجوب مدن العالم في احتيال دائم.

وكأن الحريري يحاول أن يربط بين المدينة وظاهرة الاحتيال. فهل المدينة مسؤولة عن نشأة وانتشار هذه الظاهرة، كونها في حقيقة الأمر مجرد سوق ضخمة، وحركة الأسواق تقوم - كما نعلم - على خصلتي الجشع والطمع؟.

فقد صور الحريري عصره وحب الناس للدرهم والدينار تصويرا دقيقا، وعلت فيه قيمة المال حتى صار المعيار الأوحد عند الأفراد. وكيف جعل الجشع أفراد المجتمع يلجأون إلى المكر والكذب، وتقمص الشخصيات للحصول على المال.

إن لتأثيرات المدن دورا كبيرا في نشأة ظاهرة الاحتيال، والمدينة الحديثة أصبح حضور مبادئ وقيم السوق طاغيا وكثيفا فيها، ويمارس ضد منظومة الإنسان الأخلاقية شتى عوامل التفكيك وتحفيز الفردية.

وهنا فظاهرة الاحتيال سيزداد سعيرها في ساحات المدن التي أصبحت مسرحا للمحتالين. هناك نظرة تشاؤمية تجاه المدن في مقامات الحريري وفي أطروحات كثير من المفكرين المعاصرين.

فالمدن من وجهة نظرهم مكان بعيد عن الروحانية والأخلاق الحميدة وأكثر قربا للمادية. وأفرادها منجرفون وراء الاستهلاك في ظل آلة تسويقية ضخمة تحاصرهم بصور المنتجات والسلع في كل مكان وكل وقت.

كان أبو زيد السروجي يقف أمام المصلين في المسجد أو في الساحات العامة، أو في حانات اللهو شاكيا معاناته مع الفقر، مدعيا تارة أنه أعرج، وتارة أنه أعمى، أو متظاهرا أنه مصاب بالفالج، في سبيل استدرار العطف والرحمة.

وهو يجيد استخدام سلاح البلاغة وفنون اللغة في خطبه العصماء للتأثير في ضحاياه، عندما يذكرهم بتقلبات الأحوال وغدر الزمان.

واليوم يسلك المحتالون سلوكا جديدا يتفق مع روح العصر، وبدلا من أسمال السروجي البالية، أصبحت البدلة والكرفتة وسيارة آخر موديل من مستلزمات الاحتيال، ولم يعد التسول عند الإشارات المرورية طريقتهم الوحيدة للاحتيال، فهم اليوم يستعينون بالتقنية وفنون الحاسوب لسرقة بياناتك الشخصية ورصيدك في البنك.

نستطيع ربط ظاهرة الاحتيال بالمدنية من خلال عقد مقارنة بين أخلاق أهلها وأهل الريف في أي بلد كان. فأهل الريف يتمتعون بالبساطة والكرم والطيبة والتكافل الاجتماعي والعيش وفق نسيج اجتماعي يربط بعضهم ببعض،عكس الفردية التي يعيشها أبناء المدن، وتجعلهم يعيشون في إطار المنفعة والمصلحة المتبادلة.