إلى جانب الآمال الكبيرة التي أنعشتها نتائج الانتخابات اللبنانية، هناك ما يدعو إلى الشك والحذر، وحتى إلى الإحباط. فالانقسام العمودي في البلد أصبح انقسامات، وقوى الغالبية البرلمانية السابقة تتهيّأ من جهة لتعطيل المؤسسات، بإدارة «حزب إيران/‏‏ حزب الله» ومشاركة متضاربة من «حركة أمل» و«التيار العوني»، ومن جهة أخرى لخوض حرب سياسية ضروس ضد «السياديين» و«التغييريين» الذين عزّزتهم أو أبرزتهم صناديق الاقتراع، وقد لا تبقى تلك الحرب في إطار السياسة. أما الأخطر فهو أن التعطيل، الذي سبق لـ «حزب إيران» وحلفائه أن مارسوه في 2006 – 2008 ثم في 2014 – 2016، سيدفع هذه المرّة في اتجاه مفاقمة الأزمة الاقتصادية ومزيد من الانهيار للدولة، إذ أن البرلمان المعطّل يعني حكومة معطّلة، تمهيدًا لفراغ رئاسي جديد، وبالتالي تجميد خطة التعافي الاقتصادي والاتفاق مع صندوق النقد الدولي لأن إقرار الموازنة العامة والإصلاحات المطلوبة سيكون متعذّرًا.

كما هو معلوم، لم يكن متوقّعًا أن تأتي الانتخابات بأي ملمح تغييري، لكنها صنعت المفاجأة التي لا بدّ منها، بل برهنت أنه لا يزال هناك «أمل» في لبنان، أو «بصيص أمل» على الأقلّ.

فبرغم كل شيء، وبرغم قانون الانتخاب الذي فصّل على قياس أطراف منظومة السلطة والفساد، وبرغم الترهيب والبلطجة اللذين لجأ إليهما «حزب إيران» قبل الاستحقاق الانتخابي وخلاله... ظهرت انعكاسات انتفاضة «17 تشرين» بكل وضوح، فبعدما هزّت الأرض في 2019 تحت المنظومة الحاكمة وسلاحها غير الشرعي وفسادها المشرعن والممأسس، استطاعت في 2022 أن تزعزع ثقة هذه المنظومة في تمثيلها الشعبي المزعوم وأن تسحق عملاء «أسديين» صغارًا ذهبوا بعيدًا في تضخيم ذواتهم ووقاحتهم.

اخترق «التغييريون» كل الحواجز والأسوار التي منعت احتجاجاتهم من الوصول إلى مبنى البرلمان، وإذا بصناديق الاقتراع تدخلهم إليه رغمًا عن «شرطة المجلس» سيئة السمعة.

ليس كبيرا عدد من دخلوا وليس قليلًا، لكن فاعليته ستكون عظيمة إذا وحّدوا صفوفهم، وأساسًا لا خيار آخر لهم ليثبتوا أن أهدافهم أهمّ من شخوصهم، أما إذا لم يتوحّدوا فلن تكون لصوتهم قيمة في المجلس النيابي.

قبل الانتخابات وبعدها كان جليًا ومثبتًا أن ثلاثي الغالبية السابقة («حزب إيران» و«حركة أمل» و«التيار العوني») ميؤوس منه، إذ قاد لبنان واللبنانيين إلى «جهنم»، ولم يعد هناك ما يُرتجى من وجوده في السلطة. لذلك فإن المسؤولية الكبرى تقع الآن على عاتق «السياديين» المنتخبين، من «القوات اللبنانية» إلى «الكتائب» والقوى المستقلّة، فمعهم يعود إلى المكوّن المسيحي الدور التاريخي والطبيعي للحفاظ على «الكيان اللبناني» واستقلاله، ومعهم أيضًا زملاؤهم من السنّة ومن عابري الطوائف لأن الدور المسيحي لا يستطيع وحده أن ينجز.

هؤلاء «السياديون» هم رأس الحربة في مواجهة الاحتلال الإيراني ممثلًا بـ «حزبه» و«الحركة» المستتبعة له، كما في مواجهة «التيار العوني» الذي أوقع نفسه في فخّ الإصرار على مواصلة تبعيته لأجندة الاحتلال الإيراني واستكمال بيع السيادة وهدم الدولة.

لكن «السياديين» مدعوون أيضًا إلى توحيد صفوفهم، فلديهم الإرادة والخبرة وعليهم يُعقد الرهان وطنيًا، ولن يكون لخطابهم أي معنى بعد الآن إذا اختاروا أن يخوضوا المواجهة السلمية السياسية متفرّقين.

ليست جديدة الدعوات الموجّهة إلى «الثنائي الشيعي» كي يراجع نفسه ونهجه وممارساته، أو إلى «الحزب» كي يضع سلاحه بعيدًا عن السلم الأهلي، وليس جديدًا أنه فقد أو أفقد نفسه أي قدرة على المراجعة والارتداع. في المقابل لم يعد «الحزب» مؤهّلًا لأي حوار وطني فهو حتى لا يحاور أتباعه بل يوجههم ويأمرهم، ولا لاحترام أي وثيقة داخلية بعدما وقّع على «وثيقة بعبدا» ثم نقضها، ولا مؤهّلًا للقبول بأي «استراتيجية دفاعية» لا يملي فيها شروطه للحرب والسلم. وعدا عبثه بالطوائف الأخرى إلى حدّ تمزيق الحد الأدنى من التماسك الاجتماعي، فإنه برهن في مسار الانتخابات أنه بسلاحه وترهيبه يصادر روح الطائفة الشيعية وإرادتها الوطنية، لكنها بنسبة تصويتها المنخفضة أرسلت إليه «إنذارًا»، وآثر حسن نصرالله ونبيه برّي تجاهله كأنه لم يكن.

ومع ذلك فإن الطائفة نفسها أسقطت لتوّها فكرة «الثنائي الشيعي» الذي ربما وُجد لفترة لكنه يتمثّل الآن بميليشيا كبرى آمرة ومهيمنة وميليشيا صغرى تابعة لها.

أما «الثنائية» فهي بين الميليشيا والمجتمع الشيعي الذي يشارك المكوّنات اللبنانية جميع معاناتها صعوبات العيش وتطلعاتها الوطنية، وبرغم وقوعه تحت قمع «الحزب» فإنه وجد في عدم الاقتراع طريقةً للإبلاغ بأن لديه رأيًّا آخر.

لا شك أن الانتخابات قدّمت بوادر تغيير متواضعة لكن يمكن المراهنة عليها واعتبارها بداية طريق إلى تغيير أكثر عمقًا. غير أن الواقع لا يزال هو الواقع، وهو أن إيران و«حزبها» لا يزالان قادرين على إخضاع الوضع اللبناني وإبقائه في غرفة انتظار التسويات الدولية - الإقليمية، التي يعتقدان أنها ستكون لمصلحتهما لا محالة. وثمة ما يزكّي ربما طموحهما، فالقوى الدولية تميل في المراحل المقبلة إلى استرضاء طهران سواء لإنجاز الاتفاق النووي وما يتبعه من مصالح أو لحاجة تلك القوى إلى عدم التأزيم في الشرق الأوسط طالما أن أزمة حرب أوكرانيا باتت مفتوحة وليس من أفق زمني معروف لإنهائها.

لعل أهم ما أسهمت به هذه الانتخابات أنها أكّدت المؤكّد، وهو أن الطائفية كانت ولا تزال علّة العلل في لبنان، وأن الطائفية هي السبيل للخروج من نفق الأزمة الشديدة الراهنة لكن بقطار وفاقي لا بدّ منه، طالما أن البلد لم يتقدّم ولو خطوة دستورية – قانونية - مؤسساتية واحدة نحو إلغاء الطائفية.

غير أن ما تأكّد أيضًا أن إيران و«حزبها» ليسا العنوان الصالح لأي «وفاق وطني» منشود طالما أنهما يقودان مشروعًا احتلاليًا على غرار جيش الاحتلال الإسرائيلي وما يرفده من عصابات «مستوطنين».

وكما أن المحتلّ الإسرائيلي لا يريد سلاماً مع الفلسطينيين بل اعترافًا بـ «مشروعية» احتلاله، فإن المحتلّ الإيراني لا يبحث عن سلام مع اللبنانيين، وكذلك السوريين والعراقيين واليمنيين، بل عن قبول طوعي بنفوذه/‏‏ احتلاله.

* ينشر بالتزامن مع النهار العربي