الحروب في العالم ربما هي الشيء الوحيد الذي يُعرف أوله دون آخره، فبداية اندلاعها يفترض أن يرتبط بساعة صفر، ونهايتها تقتضي وجود «الصفر» أيضًا، لكنه ليس في التوقيت، بل مقياس الربح، والخسارة، والانتصار، والهزيمة. والمعادلة التي يُفترض توفرها حتى تضع أي حرب أوزارها يجب أن تكون «صفرية» بالمعنى الكُلي، تقوم بالضرورة على «ما يخسره هذا، يكسبه ذاك، وما يكسبه هذا، يخسره ذاك».

أما في السياسة، فالأمر على النقيض، ويقودنا ذلك للعودة لنظرية «الغموض البنّاء»، التي وضعها السياسي الأمريكي المخضرم وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، وتعتمد على تجاهل الأزمات وتركها للوقت ليصبح أحد أسباب الحلول وحلحلة المواقف، ما يفتح المجال لكل طرف لانتظار حدوث إيجابية له من خلال عنصر «الوهم»، للوصول إلى قبول ما كان مرفوضًا في السابق. وهذه النظرية قد تنجح في شأنٍ داخلي يرتبط بغلاء معيشة أو تدني أجور أو ما شابه، أو في السياسة بالمُجمل، لكنها يستحيل أن تكون ذات تأثير في الحروب، بالنظر إلى مؤشر الربح والخسارة.

ويتضح أن الأزمة السورية كانت ضحية لتلك النظرية، إذ أهملها الغرب منذ العام 2011 واكتفوا بالمناكفة الاعلامية، أملًا بحلها من خلال عنصر الوقت ووهم حدوث المصالح لكل الأطراف، وذلك ما يمكن اعتباره خطأ استراتيجيًا كبيرًا، فسح المجال لدخول الميلشيات الإيرانية والحرس الثوري وحزب الله إلى العمق السوري، وحتى القوات الروسية بعد أن قرر سيد الكرملين التدخل لإنقاذ نظام الرئيس بشار الأسد، استفادت من الخطأ.

قرأت مؤخرًا بعضًا من كتاب «النظام العالمي» لكيسنجر، الذي يعتبر مهندس صفقة التقارب بين بلاده والصين بعد الحرب الباردة، وأحد أهم أركان الدولة العميقة في الولايات المتحدة الأمريكية ممن يشكلون جماعات «الثينك ثانك»، ووجدته يرى التاريخ عاملًا مهما في صناعة مستقبل العالم، وأنه – وهذا الملفت - يرفض المعسكر الفردي، مُتجاهلًا أن بلاده استفادت من القطب الواحد، وفرضت نفسها في قاموس الريادة العالمية الأحادية.

وتقترب هذه الرؤية، من تصريحاته في منتدى دافوس الأسبوع ما قبل الماضي، حين حذر واشنطن وحلفاؤها في المعسكر الغربي، من مغبة تجاهل القوة الروسية على أنها قطبٌ لا يمكن مشاركته في التوازن العالمي. وهذا يعني أن العالم أمام ضرورة قبول القسمة على اثنين أو أكثر من حيث الأقطاب، وليس تفرّد قوة واحدة مثلتها أمريكا على الأقل خلال العقود القليلة الماضية، وأثبتت اندفاعها للحروب وزعزعة الاستقرار، في مقابل فشلها في عديد من التجارب. والتاريخ يذكر الجرأة الأمريكية باستخدام السلاح النووي في هيروشيما ونجازاكي، والحرب التي دخلتها مع فيتنام، وأفغانستان، والعراق، ناهيك عن دعمها الخفي لجماعات «الفوضى» في العالم العربي، وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين «الإرهابية».

بالمناسبة، على ذكر منتدى دافوس – وهذا خارج النص -، فقد أحدث كيسنجر ضجةً كبرى، بعد أن اقترح منح أوكرانيا جزء من أراضيها لروسيا الاتحادية، وعليها أن تتكيف مع ذلك لوضع حد لحربٍ يبدو أنها غير متكافئة. ويبدو أن الرجل العجوز رقص الدب الروسي، وأغضب واشنطن والعواصم الأوروبية وكييف، التي اضطر رئيسها لتذكيره بفراره هو وأسرته حين كان يبلغ من العمر 15 عامًا، بسبب النازية الالمانية التي جسدتها حقبة أدولف هتلر.

المهم، أتصور أن أفكار السياسي العجوز، تتطابق إلى حدٍ كبير مع المنهجية الروسية، التي ترفض الاستحواذ على القرار العالمي من قبل طرف واحد. وذلك ما أثبتته تلميحات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف، خلال زيارته للمملكة الأسبوع الماضي، حين قال «يجري تشكيل عالم متعدد الأقطاب. ويحاول زملاؤنا الغربيون منع هذه العملية. يسعون لتوسيع هيمنتهم وحشد جميع البلدان الأخرى تحت رايتهم، باستخدام الوضع في أوكرانيا وما حولها كذريعة».

ومن حديث لا فروف يمكن فهم أمران، الأول: عرقلة أي تعديل على ميزان القوى العالمية، يخلق مساواة استراتيجية بين الدول الفاعلة؛ اعتمادًا على شيطنة الروس. والثاني: أن الهدف الغربي من دعم أوكرانيا، يرمي لاستنزاف الاتحاد الروسي، ليبدو مُنهكًا وغير مناسب للمشاركة في ذلك التوازن. وفي هذه الصورة، تكرار لما حدث إبان الحرب الروسية - الأفغانية.

ما دفعني لربط التصورات ببعضها، هو استشعار عديد من الأطراف ذات القيمة الاستراتيجي؛ ضرورة بناء المستقبل على نظامٍ حديث وعصري، يتجاوز المفهوم الذي عملت على تكريسه الولايات المتحدة خلال العقود الماضية، وجعلت منها صاحبة القرار العالمي الأول والأخير.

وفي هذا الصدد لا يُمكن التغافل عن أن بلادي المملكة العربية السعودية؛ كان لها دور في كسر «التابو» المبني على الأحادية الأمريكية. فقد تنبهت الرياض مبكرًا لعدم جدوى هذا النمط السياسي، وعملت بالوقت ذاته على تعزيز علاقاتها مع الحلفاء الجادين الأوفياء، ليس كونها دولة طارئة، بل استنادًا على مقومات تضمن وضعها على مسافة واحدة مع أي دولة في العالم وعلى رأسها أمريكا. فتاريخ المملكة الذي يتفوق على التاريخ الأمريكي؛ والاستقرار السياسي، وارتباط بيت الحكم بالمكون الاجتماعي للدولة، والثقل الاقتصادي، وقبل ذلك كله، مكانتها الدينية، تمنحها الفرصة لأن تكون في موضعٍ يُخولها مقارعة الكبار، وهي ليست صغيرة في الأصل والبناء.

إن الوقت قد حان لتجاوز الأنماط السياسية الباردة التي أكل عليها الدهر وشرب، واستفادت منها دول لا تستحق مكانتها التي تحتلها، من خلال فرض ميزان عادل يقوم على فرضيات يقتضيها التطور العالمي؛ وليس جبروت القوة؛ ونزعة القتال، وشهوة الحروب، ومُماحكات التدليس السياسي، التي حوّلت العالم لغابة يقتات عليها تُجار السلاح والدماء ورائحة البارود وهدير الطائرات.

فالبقاء أكثر على سياسة القطب الواحد، يستدعي بالضرورة ولادة أجيال من المستضعفين.

وهذا غير مناسب إنسانيًا وأخلاقيًا.

كونه يُحول المشهد إلى فكرة..

«أبوي ما يقدر إلا على أمي».

والله يعلم.. من يقدر على من.!

نهاركم لطيف.