قالت لي معلمتي في المرحلة الثانوية ستكوني طبيبتي في يومٍ ما، فآمنت بذلك وحينما تخصصت في طب الأطفال ظننتُ أن حدس معلمتي لم يكن دقيقًا، وانغمست في طب الأطفال ونسيت تنبوء معلمتي، وشاء الله أن يتم ترشيحي لأكون أحد الأطباء المكلفين في مشعر منى، بعد إنهائي زمالة طب الأطفال، لم أكن لأعرف مدى لذة خدمة الحجيج لولا أن فعلت.

الحج جمعني بزميلات لم أرهنّ منذ سنوات، وعرفني بأخريات لم يكن لظرفٍ مكاني أن يجمعنا لأننا من تخصصات مختلفة، في الحج كلنا أطباء طوارئ، نساعد، نقدم الإجراءات الأولية، ونشخص وإذا كان الأمر يحتاج إلى اختصاص معين يتم تحويل المريض حسب حالته. وفي صباح العيد، وبينما أنا استلم حالة مريضة من الزميلة المناوبة في الفترة الليلية فإذا هو اسم معلمتي، صدق حدسها وكذب ظني. كانت تعاني من اضطراب في المعدة وجفاف متوسط، أعطيت المحاليل طوال الليل، وخرجت معي في الصباح لعلاج للمعدة، ما كان لي أن أخرجها دون أن أخبرها إنني طالبة الثانوية التي تنبأت لها، أنها ستكون طبيبتها يوما، قد ساقني القدر لها كي تعرف أن قلب المؤمن دليله.

في كل عام وأنا أتابع أخبار الحجيج، أتذكر كل القصص فأجدُ نفسي تتوق للتواجد بينهم، كل عام تتطور الخدمات الصحية أكثر، وتصبح أكثر وفرة وسهولة، وكل الأشياء ممكنة، حتى العلاج عن بعد أصبح ممكنا، عن طريق تفعيل خدمات الطب الاتصالي في الأماكن التي لا يتوفر فيها طبيب مختص لتسهيل متابعة المريض عن بعد، ولتقديم الخدمة الطبية في أسرع وقت.

في كل مشعر من مشاعر الحج هناك ممارس صحي، يعمل في منشأة صحية، تمّ ترشيحه من قبل جهة عمله، وفي هذا العام كان هناك قرابة 25 ألف ممارس صحي لتقديم الخدمات الصحية لقرابة 900000 حاج، معظمهم قادمٌ من خارج المملكة، وهذا يُظهر أيضا دور الممارسين الصحيين في المنافذ الجوية والبحرية، في تقديم الرعاية الصحية لضيوف الرحمن، حيث يتم تقديم الخدمات الطبية والوقائية من المعاينة وإعطاء التطعيمات، وعزل الحالات المشتبه بإصابتها بعدوى ونقلها للمستشفيات، وهناك نقاط طبية شملت قطار الحرمين وقطار المشاعر لمزيد من الرعاية الطبية.

الحج يعتبر أكبر تجمع بشري في الزمان والمكان ذاته، ومع تفشي الأوبئة في العالم، يجعل تحقيق رقم صفر انتصارا عظيمًا، صفر من الوفيات، صفر من الإصابات، صفر من العدوى، تدريب الممارسين الصحيين على التعامل مع كل الحالات الطارئة وتخصص البعض في طب الحشود، وتوفر المستشفيات والمراكز الطبية والأجهزة والإمكانيات الطبية العالية، له دور كبير في هذا النجاح. لا يقف الأمر على ذلك، بل البعض أجرى عمليات أثناء تأدية شعيرة الحج، عمليات المناظير وعمليات القلب والقسطرة، وكلها تكللت بالنجاح بفضل الله ثمّ بفضل جودة الخدمة المقدمة لضيوف الرحمن.

في الحج قصص وذكريات ومواقف، فهناك نساء يأتين من أقصى بقاع الأرض ليضعن مواليدهن في الأرض المباركة فإن كانت بنتا سمتها منى وإن كان ولدا سمته عرفات، حتى الأسماء المكان يختارها، أتذكر أما وضعت مواليدها الأربعة وهي تؤدي فريضة الحج، وغادروا المستشفى جميعهم بصحة جيدة، لا أعلم أي الأسماء منحتهم، وهناك أشخاص اختاروا أن تكون مكة والبيت الحرام آخر عهدهم بالدنيا، فيأتون للحج وهم مرضى وكبارًا في السن، ليموتوا مطمئنين ويُدفنون في مكة ليغبطهم أحبتهم، ماتوا فرحًا أو شوقًا أو ربما خاتمة طالما تمنوها.