حدثان متصلان دالان، استهل بهما محمد حسين هيكل حياته الباريسية، التي بدأت في صباح الثالث عشر من تموز (يوليو) سنة 1909.

الحـدث الأول مرتبط بوصوله إلى باريس مع احتفالات الثورة الفرنسية وسقوط الباستيل في الرابع عشر من تموز (يوليو) سنة 1789، وهو اليـوم الذي يحـتـفـل فـيـه الفرنسيون بعيد الحرية، فيرقصون في الأماكن العامة ويضحكون و«يعـمـلـون مـا لا يعمل»، فيما يكتب في مذکرات شبابه، واصفًا الأمة الفرنسية التي فاجأته بما تمتلئ به من سرور وجزل في عيد حريتها، فلا يكاد يسير خطوة إلا ويدهشه السرور المفرط الذي لم يستطع أن يمنع نفـسـه من المشـاركـة في انطلاقه، فاندفع مع المندفعين إلى ميدان الباستيل، حيث يقوم تمثال الـحـريـة عـاليًـا يطل على المدينة الزاخرة.

وبين الأضواء الزاهية، تعلق بصره بتمثال الغادة التي تمثل فرنسا حين دكت قواعد سجن الباستيل الذي كان مـسـتـودع الظلم ومـقـام الأحـرار الذين خسف بهم الاسـتـبـداد.

أمـا الحـدث الثـانـي فـوقـع بعد أيام من الاحتفال بعيد الحرية، حين ذهب إلى قصر فرساي، ودخل غرفة نوم لويس السادس عشر، ورأى سريره الفخيم وقد اجتمع الناس حوله بأشكالهم المختلفة وملابسهم المتباينة، وكلهم فرح مستبشر ليس عليهم أثر الوجل الذي يحل بمن يدخل إلى غـرفـة ملك، ولا يرتعدون خيفة أن يحكم عليهم بالإعدام أو السجن، لأنهم يقفون على بساط الحرية التي أراق آباؤهم من أجلها دماء شريفة غالية، وقد أبرز هذان الحدثان قيمة الحرية إبرازًا خاصًا.

وقد أبرز هذان الحدثان قيمة الحرية إبرازًا خاصًا في تفكير هيكل من حيث صلتها بشعارات الثورة الفرنسية التي وصلت بين مبادئ «الحرية والمساواة والإخاء» في تأكيد منحاها الديمقراطي الذي كان له أبلغ الأثر في أوروبا والعالم كله. وظل لهذين الحدثين دلالتهما الاستهلالية في وعي هيكل، الذي أخذ يتعرف المظاهر الملموسة لمعاني الحرية في علاقتها ببقية مبادئ الثورة الفرنسية، لا من حيث هي مبادئ يقرأ عنها في كتب، وإنما من حيث هي مـبـادئ فـعـلـيـة يحياها المواطنون في واقعهم اليومي، ويجسدونها في علاقتهم بأنفسهم وعلاقتهم بحكامهم.

حينئذ أدرك هيكل أن الحرية هي المفتاح السحري لحل مشكلات التخلف التي يعـانـيـهـا وطنه، ذلك الوطن الذي بدأ يستعيده بالذاكرة في يومياته الباريسية، ومن منظور المجتمع الفرنسي الذي أخذ يتأثر به بقدر ما يتعلم منه، وشيئًا فشيئًا، أخذ يزداد يقينًا بأن الحرية أصل الـتـقـدم العلمي والـسـيـاسي والفكري والإبداعي والاجتماعي، وإكسير النهضة في المجالات التي فتن بها، فالحرية نسغ المساواة والإخاء في تحققهما الخلاق الذي اغتنت به مـغـامـرات الإبداع وتجـارب الفكر واخـتـراعـات العلوم التي عرفها، وتأكدت به فاعليـة عـقـل الاستنارة الفرنسية، التي وضعت كل معتقداتها موضع المساءلة، تجسيدًا للمتغير الذي استدل بالثوابت نقائضها في انطلاقة ذلك العقل.

وتصل حـمـاسة هيكل للحرية إلى مداها من هذا المنظور، فيكاد يراها سرًا من أسـرار الطبيعة الفرنسية، خـصـوصًـا حين يكتب قائلا: لا بدع أن أنبتت هذه البلاد الكتاب والشـعـراء مـمـن يـقـيـمـون صروح الحرية، إذ كيف لا يكون الرجل الذي يعيش بين أبدع الحدائق والجنان شـاعـرًا مـبـدعـًا وكاتبًا تخضع له الأفهام، وحين يتـجـول مـتـأمـلاً بين نماذج الإبداعات المختلفة في متحف اللكسمبور، الحرية ماثلة وراء النماذج التي بهرته، ويقارن بينها وبين إبداعات حضارته القديمة، فيؤكد أن ما يراه من فنون يشهد أن الغرب ابن اليوم، على النقيض من الشرق ابن الأمس، الذي تدل آثاره على هـرمـه وشـيـبـه، فـإبداعـات الفن الأوروبي الحـديث تدل من حيث تنوعها وإطلاق اليد والحرية فيها على تحلل الغربيين من قيود كثيرة، لا تزال مقيدة بها النفس الشرقية بدعـوى الفضيلة والحـيـاء.

وكـأن مـبـدعي الغرب الحديث يريدون أن يستغلوا كل ذرة مادية ونفسية وأخلاقية من ذرات الوجود، وما يدخل فيه من إنسان وحيوان وأشياء وأرض ونبات وشـجـر ومـاء وسماء، وكل ما يمكن أن يجـول بالخـاطر أو يسـرح إليـه على مثال هذه الحرية في الفن، معتقدين أنها موضع استبدل بالثوابت نقائضها، في انطلاقة ذلك العقل الذي لم يتوقف عند حد.

1998*

* ناقد وأكاديمي مصري «1944 - 2021».