العنصرية، أو العرقية، حاجة غابرة عرفتها ومارستها الشعوب المتحضرة في العديد من الحضارات. وقد اتخذت، حينذاك، شكل تعصب قومي عبر عنه أهل الصين واليونان بتسمية غيرهم «برابرة»، وعبر عنه العرب بتسمية غيرهـم «أعاجم». والعجمة ضد الإفصاح، وربما كانت ضد النطق، وهو ما يستفاد من إطلاقها على الحيوانات. واعتبر أهل الصين فوق ذلك كل أجنبي شيطانا (يانج - کوي ـ تسي)، بينما أكد أرسطو أن مسألة الفارق بين اليونان وغيرهم هي من مسائل الطبع. فاليونان، كما يقول في سياسياته، هم بالطبع سادة البرابرة والغربيون هم أقدم من فلسفة التمايز بين الناس. وفي الحضارة الإسلامية أفتى بعض الفقهاء السنة «متأثرين بالسياسة الأموية، بما يسمى زواج الأكفاء» ويعني ألا تتزوج العربية المسلمة من غير العربي المسلم. ووقف عربي جافي يسأل فقيها أنكر زواج الأكفاء: أترى هؤلاء الأعاجم يتزوجون بناتنا في الجنة؟ قال: نعم! قال: أما وسيوفنا على عواتقنا فلا!. وعاني السود من جيرانهم الأوراسيين كثيرًا من الضيم فاستعبدهم الأوروبيون والمسلمون، عربًا وعجمًا، وتعصبوا عليهم وسخروهم في أخس الأعمال وأشقها.

لكن الحضارات الغابرة لم تعدم الضد المنبثق من وعي أخلاقي وإنساني رفيع، يقول بالمساواة، وينكر الاضطهاد القومي، ويعترف للأمم والرسوس بما لها من خصائص وما عليها من تبعات. فالفلسفة الصينية لم تؤدلج التمايز كما فعلت فلسفة اليونان، بل وظهر من فلاسفة الصين من نادي بالحب العالمي وأنكر الحرب كالتاويين، والموهيين، وبعض الكونفوشيين. ودعا الرواقيون الإغريق إلى مبادىء مقاربة. بينما وقفت معظم الفرق الإسلامية ضد زواج الأكفاء، وقالت بالمساواة المطلقة بين المسلمين دون النظر إلى ألوانهم وألسنتهم.

وظهر من مفكري وفلاسفة الإسلام من دعا بدعوة مماثلة ثم تجاوزها إلى إلغاء الفروق بين الأديان، وكان علي بن أبي طالب يقول لمالك الأشتر في وصيته له: إن الخلق صنفان أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.. وذهب المعري إلى مدى أبعد فدعا إلى إلغاء الأديان والمذاهب لأنها فرقت بين البشر. وصدرت كتب تنتصف للسود تصدرها كتاب الجاحظ: «فخر السودان على البيضان» وكتابان للسيوطي «رفع شان الحبشـان» و«أزهـار العروش في فضل الحبوش»، وظهر من بين المضطهدين كتاب وشعراء، دافعوا عن أنفسهم ضد الازدراء، ففضح «سحيم» أسياده وشهر بأعراضهم، ورد الحيقطان على جرير الذي شتم الزنج في هجائه للأخطل، ردا عجز الشاعر العنصري عن مواجهته. وبينما كان المتنبي يلوث صحائف ديوانه بهجاء الأفارقة في شخص كافور، كان أبو حیان التوحيدي وأبو سليمان المنطقي وإخوان الصفا يرفعون عقيرتهـم بالدفاع عن الشعوب وخصائصها في حدود فهمهم لهذه الخصائص على أن حلول عصر الحضارة الغربية الحديثة جلب معه عنصرية من طراز جديد، متطور، مبني على العلم والاقتصاد والآلة العسكرية... فتحت تأثير الحاجة الاقتصادية المحمومة، تكالب الغربيون على القارة السـوداء، ومـدوا خراطيـم استعمارهم إلى ما وراءها، فالتفت حول الرسوس السمراء والصفراء والحمراء. وحولت الجميع إلى عبيد للرس الأبيض. وبالتكامل مع هذا الاكتساح العالمي جاء الفكر البرجوازي فادلج للسيطرة بعرقية علمية تقوم على نظريات الارتقاء؛ فوضعوا عقيدة تعدد الأصول حتى يعزلوا آدم الأبيض عن آدم الملون. واستعادوا مذهب أرسطو في السيادة الطبيعية بعد أن وسعوه ليشمل الرس الأبيض في مجموعة وليس اليونان وحدهم، واعتبروا بالاستناد إلى هذا المذهب المعزز بالداروينيـة الاجتماعية التخلف الحضاري الراهن للملونين هو أمر طبيعي يكمن في أصل الخلقة وليس أمرًا اجتماعيًا موقوتًا يرتهن بمرحلة تاريخية معينة. وقد بلغ الأمر حد البديهية العلمية التي جعلت إرنست رينان يتوجع لهؤلاء المساكين الذين خلقتهم الطبيعـة ليخدمـوا البيض، لأن تكوينهـم الفيزيولوجـي، والمورفولوجـي، والتشريحي، لا يؤهلهم لأكثر من ذلك.

يتبع..

1982*

* مؤرخ ولغوي عراقي «1932 - 1998».