كان المشهد مهيبًا لمزرعة كبيرة فسيحة بها مئات النخل، وكل نخلة تأنف أنفها سماءً، وكل نخلة لا تريد لمن بجوارها أن تعتليها أو تكون أكثر نضارة منها، أو أجنى منها تمرًا، كل نخلة تعتقد أنها التي جُعلت لأجلها المزرعة، ولم يُخلق ساقية للماء إلا لأجلها، حتى باتت تعتقد أنها «شجرة الله المختارة»، أما البقية من حولها فما هم إلا متشبهات بها، لا أصل ولا فصل، زيادة في العدد ولا يتسحقون مما تستحق شيئًا، لها المائدة الرئيسية، ومن ثم ما تبقى من بقايا أكلها وشربها فتتفضل به لهن، والغريب أن هذا الشعور متبادل، فكل نخلة تعتقد أنها الوحيدة والبقيات هراء، وما إن أتى يومًا حتى أصبح ما كان مجرد شعور قد بات واقعًا، تقاتلت النخلات فيما بينها، تقاتل الجنود الصامدين ولكنهم بلا أرجل، المهم ألا يشعر من كنت لا أراه شيئًا أنني قد بقيت لا شيئًا فعلًا.

علمت إحدى تلك النخلات أن النار أكثر ما يقتل جاراتها، ويبيدهم من أمام أعينها، فأضرمت نارًا أكلت ما بجوارها، فرحت تلك الوحيدة ببقائها، وما كادت الأيام تمضي حتى أحست أنه لا عوز لها، مَن تنافس ومن تشاكس، من تشارك ومن تجالس، مضت الأيام وذبلت وماتت ميتة الذي لا بجواره من يكفنه أو يصلي عليه، يبُست وانحنى رأسها إلى ما خلقت منه، انطوت إلى الأرض وانغرس رأسها المشرهب في الرمال، ميتة الذي عرف أنه لا شيء بلا جنسه، ولا ذكرًا له بلا صنفه، ولا حياة إلا مع الجماعة.

أتى يوم وخطت برأسها على الأرض بآخر ورقة يابسة منها، ألّا تَقاتلوا على ما ستتركونه، ألّا تدمروا من به تبقون أحياء، كل حياة من حولنا هي حياة لنا، إن رأيتم النار قد أشعلها الجوار، فلن يكون الجور على من جار، بل على الجار وجار الجار.

انتهت تلك الحياة في المزرعة، ومرت الدهور والعصور، وأنبت المطر أول ورقة من جديد، عادت النخلات للحياة من جديد، نخلات قد أنساها جهل ما جار على أجدادها لتجور من جديد، تشرئب وتنفخ، تزمجر وترقع، تحشد وتقشط، قتال بالمشاعر وفي طريقه ليصل للظاهر، أيامًا معدودات وعادت النخلة غير الحليمة لعادتها القديمة، وأشعلت النار وقتلت من بالجوار، ولكن النار وصلت للحليمة، نخلة رأت النار لا تلفح إلا من أبقت رأسها عاليًا في موطن للنزول حياة، أنزلت نفسها وأقصرت قامتها، لهبت النار رؤوس من قبلها، ولكن لم تلفحها فلم تلحقها، قد وصل الشرر لبعض جسدها، ولكنها نجت وأنجت من بعدها، قٌصر في موطن قَصر الضرر فهو القوة، قوة من يعي أن الحياة قصيرة فلا عاد لها حاجة لمن يُقَصِّرُها أكثر، توقف الحريق ولم ينتشر توقفت «المهايطة» و «العربجة» و «العربدة»، توقف نفخ ماقبل السقوط، وإن سألوا فيمن كان الفضل له، سيكون ل «النخلة التي قصّرت نفسها».