نستعمل عادة كلمة «ثورة» للتعبير عن التغيرات أو التحولات العلمية الفجائية، فنقول ثورة علمية أو ثورة صناعية، ولكن الثورة الصناعية لم تكن فجائية أو بزغت هكذا دون مقدمات طويلة، فالتحول الصناعي لم يكن ثوريًا بقدر ما كان تطوريًا لأنه كان بطيئًا وتدريجيًا. هذه التحولات التدريجية الصناعية التي شملت غالب أنحاء العالم كان لها أثرها العميق على المجتمعات البشرية.

فقد اخترعت المكائن والآلات الميكانيكية لتساعد المجهود البشري أو تحل محله في صناعة البضائع، وازدادت بذلك سرعة الإنتاج زيادة هائلة، وتوسع النقل وزادت سرعة وسائل المواصلات. وحدثت هجرة جماعية تلفت النظر من الحقل إلى المصنع ومن الريف إلى المدينة وتحول الشغل اليومي للناس من العمل في الزراعة إلى العمل في الصناعة، وأدى استخدام الآلات الميكانيكية الضخمة في الصناعة والإنتاج إلى تضخم الإنتاج الاقتصادي والتبادل التجاري تضخمًا هائلًا.

لهذا التحولات الضخمة في الإنتاج ونمط الاقتصاد أثرها البالغ في العلاقات الإنسانية، وتحديدًا في العلاقة بين الرجل والمرأة، فالتحولات الاقتصادية أدت لتغير الأدوار الاجتماعية للرجل والمرأة بشكل ملحوظ، وتغير في المصالح المشتركة بين الجنسين، فهل هذا التغير كان نتيجة طبيعية لنشأة النظام الصناعي؟ أم نتيجة حدوث تغيرات في الظروف؟ أم في الطبيعة البشرية للرجال والنساء؟

يقول برتراند رسل: «إن الاعتقاد الشائع بأن الطبيعة لا تقبل التغيير هو اعتقاد باطل. فكلنا نعلم أن طباعنا وطباع معارفنا تتأثر إلى حد كبير بتغير الظروف».

يحمل اعتراف رسل خطورة كبيرة وغير مسبوقة بقوله إن الطبيعة البشرية يمكن لها أن تتغير، ولنفترض جدلًا أن كلامه صحيح، وأن الطبيعة البشرية فعلا يمكن لها أن تتغير حسب الظروف، فما النزعات المحرضة لحدوث تغيرات في العلاقات الاجتماعية بين الرجل والمرأة؟

طبيعي أن تتغير حياتنا وعاداتنا الثقافية بدرجات متفاوتة مع تغير حركة الاقتصاد واتجاهاته، فكثير من عاداتنا الاجتماعية أو تقاليدنا الثقافية تصبح إلى حد ما لا تحتمل، وقد تصبح في بعض نواحيها معادية للحياة عند ظروف اجتماعية واقتصادية معينة.

يقول برتراند رسل: «أما التغيرات الناشئة عن ازدياد تحكم الإنسان في العالم المادي بسبب الاختراع والعلوم فلها أهمية كبيرة في الوقت الحاضر. فهي قد أحدثت تحولًا كبيرًا في حياة الناس اليومية عن طريق الثورة الصناعية، كما غيرت بنيان المجتمع كله بما أحدثته من قيام المؤسسات الاقتصادية الضخمة، ولقد أصبحت الاعتقادات السائدة بين الناس، وهي نتيجة الغرائز والظروف، مختلفة اختلافًا كبيرًا عما كانت عليه في القرن الثامن عشر».

ألمح رسل في معرض حديثه للجزء الغريزي من طبيعتنا أو النوازع التي تتحكم في نشاطنا الإنساني وتدفعنا نحو أفعال بذاتها، فهل الثورة الصناعية والعلمية مسؤولة عن خلق أزمة المرأة الحديثة مع الرجل؟ إن تولد النزعة النسوية، إذا أردنا التعامل مع النظرية النسوية أو الفكر النسوي باعتبارهما نزعة، نتج عنها سلوك لا واعي يدعو لرفض أي تقاليد دينية أو ثقافية يمكن لها أن تعرقل عملية التحول في طبيعة الرجال والنساء للتكيف والاندماج مع المجتمع الصناعي الجديد الذي يتطلب أشكالًا جديدة من العلاقات الإنسانية بين الجنسين؟

في رواية «أنا أحيا» للكاتبة اللبنانية ليلى البعلبكي، وبطلة روايتها ذات النزعة المتمردة «لينا فياض» التي تريد أن تستقل ماديًا عن والدها الثري، صورت الكاتبة بإتقان كبير شخصية الفتاة المتمردة ورغبتها اللاواعية للتحرر من سلطة الأهل وقيود المجتمع بكل الطرق، إلى حد أنها وصلت لمستوى تحدي ومجابهة كل ما يعترض طريقها، وكان أول طريقها للتحرر هو الاستقلال ماديا حتى تفك قيد سلطة والدها وحاجتها له، تحمل شخصية لينا فياض نزعة نسوية واضحة، ترك لها العنان لتجيش وتتحرر وتتغلب على عوامل كبتها. وكأن الكاتبة ترغب في تسليط الضوء على أن احتياجاتنا الاقتصادية هي وحدها الجديرة بالاهتمام من سائر الاحتياجات، لذلك جعلت من التحرر الاقتصادي من سلطة الأب هو الدافع الأول للنزعة المتمردة عند بطلة الرواية.