في هذه الفترة الحالكة من حياتي جمعتني الصدف بشخصية كبيرة نقية طاهرة، وكان التجاوب بين هذه الشخصية وبيني تجاوبًا سريعًا ملهمًا فقد لمست من أول لقاء أن سفينتي قد وجدت الشاطئ الآمن الصالح لتسكن إليه.

لقد كان ــ رحمه الله ــ وطنيًا معروفًا بوطنيته الصريحة العنيدة الثائرة، وحين لقيته بادرني باللوم على عكوفي بالدار وعدم النزول إلى ميدان العمل واستشهد قائلا:

شباب قنع لا خير فيهم وبورك في الشباب العاملينا

وقد أطلق حديثه هذا رباط مشاعري فشرحت له في اطمئنان وحماس. جميع التجارب التي مرت بي والمحاولات الساذجة التي قمت بها والنتائج المريرة التي انتهيت إليها وكان يشجعني على الإفضاء بما في نفسي بإصغائه الحنون وكأن هذا الحديث يهمه بالغ الأهمية ولذلك فهو يحثني على الإفاضة فيه واستيعابه مهما طال الوقت ويظهر لي المشاركة الصادقة في آمالي وآلامي، وقد شعرت أنه كان يعاملني كابن له يشركه في ذات نفسه وحين يأتي دوره في الحديث يصف لي الطريق الذي سلكته وصف الخبير العارف بخير الحياة وشرها ونعيمها وضرها وكيد الكائدين. وما يكتنف مستقبل الشاب المكافح من مخاطر وآلام ويأس، ولقد أفدت من حديثه عن تجاربه ونصائحه وأفكاره فائدة ما زلت أذكر له فضلها. وفي نهاية المجلس عينني أستاذا لقسم التخصص في القضاء الشرعي بالمعهد العلمي السعودي، وكان في قوة نفسه واعتداده برأيه أنه أجرى التعيين في داره وكلفني بمباشرة العمل في اليوم التالي وأصدر تعليماته بالتليفون ولم يضعف أو يتردد أو يخشى ما يكمن وراء هذا التصرف من مشاكل وعقبات، وقبل أن أذهب إلى عملي أحب أن أعود إلى هذه الشخصية الكريمة لأفي لها بعض أثرها في نفسي، لقد كان يلقاك أول ما يلقاك منه وجه باسم مشرق يكلل قامة فارعة الطول متناسقة الأوصال، ويوحى إليك بالثقة التامة بنفسه والعزيمة التي لا تهن ومرح وقور تنفرج عنه شفتاه الرقيقتان المطبوع عليها ابتسامة واعية مستقرة، وتحس في حديثه أنه يضع نفسه فوق الزمن وفوق الأحداث، ولذلك فهو مسؤول عن كل مواطن من مواطنيه من عرف منهم ومن لم يعرف، ويجد اللذة كل اللذة في قولة الحق مهما تخاذل عن الإقدام عليها المتملقون والمتزلفون، ويقولها مختصرة واضحة ذات نغم رنان، ولذلك فقد كان يتوارى خلفه جميع المتحذلقين والمتظاهرين بمناصرة الحق ليستروا قماءتهم بشموخه والتواءهم بوضوحه ومداورتهم بصراحته.

ولكأني أحس به يعرفهم معرفة عميقة ويشفق عليهم إشفاقا مختلطا بالحسرة والأسى، ويسدل على عوراتهم أستار قوته الشخصية وعزيمته المتحفزة حتى إذا جد الجد ووجد أن المجال للعاملين وحدهم في أي شأن من الشؤون الوطنية أو الاجتماعية نفض يده منهم جميعًا، وتقدم إلى الأمر بنفسه يقوده رأى صائب وفكرة واضحة وهدف قويم، وقد يحدث أن يصحب بعض من يتجمعون حوله للتسلية أو الإكرام أو ليلقي إليه بدور من الأدوار التافهة ليرضي غروره بالظهور بمظهر الأبطال المصلحين. وكان رغم شيخوخته في القلب مؤمنًا بالشباب يتبسط إليهم ويفسح لهم مجلسه ويشاركهم في فطرتهم المرحة المتفتحة على الحياة، ولقد كان بعض من في مثل مقامه وسنه يأخذ عليه ذلك ويعتبره من سقطاته، وأعتقد أنه كان يحس أن أمل الحياة مقرون بناصية الشباب فهو لذلك يرعاهم ويتابعهم ويتغاضى عن هفواتهم ويقيل عثراتهم ويفتح عيونهم على واجباتهم، ولذلك فقد كان نقطة ارتكاز في البلد تلتقي عنده المحبة والتوقير ومعها آمال الناس وآلامهم ومشاكلهم، وكان يرى الرأي فيبت في الأمر مهما كانت علاقته في حدود طاقته أو خارجا عنها ثم يتابع رأيه بنفسه الواثقة وعزيمته القوية حتى يكون ما رأى، وقلما كان ينزع قوسه عن سهم طائش. ولست بموفٍ أثر تلك الشخصية الكريمة في نفسي، وأخشى أن أوصم بتهمة المبالغة في الثناء عليها لقاء مغنم أدركته بواسطته، ولذا فإنني أكتفي بهذه اللمحات الصادقة: مبرأة من كل تهمة بل هي شعور صادق يفيض عن إحساسات سليمة من الهوى والغرض. ولعل في بعض ما وصفت من أوصافه ما يلقي الضوء على تصرفه بتعييني في مجلسه بداره أستاذًا لقسم التخصص في القضاء الشرعي. تلك الوظيفة المرموقة التي كانت تطمح إلى نيلها نفوس الكثيرين ممن يعرفون وسائل إدراكها ولا يتورعون عن ممارسة كل وسيلة مهما كانت على مبدأ الغاية تبرر الواسطة.

1961

* أديب ووزير سعودي سابق «1910-2012»