تمثل «الجدة» في راهننا، عصر الأسواق وثقافتها الاستهلاكية، النموذج الجميل الذي يحمل خصال التفاني والعطاء بلا مقابل، عصر أصبحت المصلحة ومفاهيم التبادل هي السارية بين أفراد المجتمع، حتى بين الأقارب من الدرجة الأولى.

ظلت الجدة الرابط الحنون بين أفراد الأسرة الذين تتهددهم السوق بثقافتها النفعية بالمزيد من التباعد والتعامل بمبدأ التبادل. ورغم أن الجدة بكل ما تحمله من مبادئ سامية تنظر إليها السوق باعتبارها «زائدة عن الحاجة»، أو تجسيدا لكل ما هو رجعي وما فيه اعتماد على الرجل، ما زالت تحمل صفة «ربة البيت» الصفة الثقيلة وغير المرغوبة في العصر الحديث.

ومع ذلك استمرت ربة البيت أو الجدة الحنونة تعيش بيننا وتلعب أدوارا خفية وهامة، مع أن ثقافة الأسواق تنظر لها بازدراء. فهي تلعب دور الجندي المجهول في خدمة سوق العمل، ودونها قد يتعرض - أحيانا - عمل المرأة والرجل للشلل التام، فالجدة الحانية وبعطفها غير المحدود، ظلت الرباط المتين الذي يحمي كيان الأسرة، ويحافظ على المنزل بجعله مكانا يتسم بالاستقرار والتناغم في ظل إكراهات السوق وتحدياتها.

السوق اليوم تعطي فكرة مغلوطة عن أن المرأة إذا لم تشارك في سوق العمل والحياة المهنية، فإنها تظل بلا عمل وبلا مشاركة مجتمعية، لكن الجدة تدحض هذه الفكرة بما تقدمه للمجتمع من خدمات جليلة، فلا ننسى أن الجدة تستقبل أحفادها الذين انشغل عنهم والداهم بالوظيفة، بصدر رحب ودون مقابل.

هناك آلاف الأطفال تستقبلهم جداتهم كل صباح عند مغادرة الوالدين للعمل، ويقضي الطفل ساعات طويلة في منزل جدته، الحضن الدافئ الذي يعوض حنان الأم، وبيتها هو المكان الآمن لاستقبال الأطفال على مدار الساعة.

وبفضل مجهودات الجدة، حافظت الأسرة على نمطها الحالي، ودون مجهوداتها فإن كثيرا من التغيرات سوف تطرأ على نمط «الأسرة النواة»، والعلاقة بين الجنسين سيعاد تعريفها. وسيجد الآباء والأمهات أنفسهم يناضلون لتحقيق التوازن في أدوارهم الاجتماعية، باعتبارهم موظفين بدوام كامل، مقابل أدوارهم كأولياء أمور. وفي ظل الحياة العصرية المحمومة والحافلة بالصراع اليومي مع وسائل المواصلات والشوارع المزدحمة، تظهر لنا الجدات بما يقدمنه من عون لا بديل عنه للوصول لحالة التوازن الأسري، وكي تدور عجلة العمل دون توقف. فالجدة تنقذ بعض المواقف الصعبة التي تطرأ على الزوجين الموظفين بما تقدمه من «فزعات» وتسويات وتنازلات أسرية كفيلة بأن تحمي الزوجين من صراعات محتملة قد يكون نتيجتها المأساوية: الطلاق.

ولو وضعنا إحصائية سريعة عن عدد الأطفال الذين يقضون ساعات يومهم عند جداتهم وقت غياب الوالدين بسبب الوظيفة، لخرجنا بأرقام كبيرة تعبر عن التحدي اليومي الذي يكابده أولياء الأمور، ويعكس الدور الهام للجدات، اللاتي ما زلن يقدمن المعونة للأسرة بصدر رحب وبكثير من العطف والحب، ودون أي مقابل لهذه الخدمات العظيمة.