كثيرًا ما أجدني أمام إشكاليات منهجية ومعرفية عندما أستمع إلى موظفٍ يُظهر أنه مختص، ويعمل في مجالات العلم والمعرفة، بيد أنه ينقصه التأسيس المعرفي في تخصصه، فضلاً عن اقتحامه لمجالات لـَمّا ينظر فيها بعدُ.

وهناك تخصصات لا يمكن للمرء أن يلجها دون تأسيس علمي يُمسك من خلاله كل ما يُحيط بمسائل ذلك العلم ويضبط أصوله، فلا يدع شاردة أو واردة إلا وله فيها مسار معرفي كي يربط جزئيات ذلك العلم بكلياته وقواعده الضابطة.

ولفت انتباهي أن كثيرًا ممن ينتسب إلى طلب العلم يجهل كثيرًا من المصطلحات العلمية أو الخلاف في بعض المسائل الشهيرة، فما أن تظهر مسألة فيها خلاف حقيقي ويُفترض في طالب العلم أن يكون مطلعًا في أقل الأحوال على ذلك الخلاف، إلا ويكون قد أسس رأيًا فيها إن كانت لديه المقدرة على الترجيح بين أقوال أهل العلم، أما أن يُبدي جهلاً بتلك المسائل الخلافية، فإن هذا مؤشر على الإشكاليات المنهجية والمعرفية التي سوف يواجهها المجتمع من خلال تقدمه في العمر، حيث إن أولئك سيكونون حتمًا جزءًا من تركيبة المجتمع، ومن القائمين على وظائفه التي سوف تُسند إليهم، فعندما أجد -مثلاً- معلمًا للغة العربية لا يُفرق بين إعراب المثنى وجمع المذكر السالم، أو ليست لديه القدرة على تمييز الجملة الأسمية من الجملة الفعلية، فإنني أُكاد أشك في أنه جلس في مقاعد كلية اللغة العربية.

كذلك عندما أجد طالب علم في تخصص الشريعة والقانون ممن يحمل ترخيصًا لتمثيل الأفراد والمؤسسات والشركات يجهل الخلافات الحقيقية في مسائل المعاملات، أو من المسائل المعاصرة التي بحثها أهل العلم من المعاصرين أو درستها المجامع العلمية والفقهية، بحثًا علميًا دقيقًا وبينوا التكييف والتنزيل الفقهي والنظامي لها، فإنني أمام إشكاليات معرفية حقيقية.

ومن تلك المسائل التي وجدتُ أن كثيرًا من طلاب المعرفة وخصوصًا في تخصص الشريعة والقانون لديهم قلة معرفة عنها، مسألة العدول عن الأصول، وهي مسألة مهمة جدًا، حيث إن معرفتها مبنية على أصول معرفية سابقة، ومن لم يُحط ويضبط الأصول فقد أضاع الفروع وهام في الجزئيات.

ومسألة العدول عن الأصول تأتي بمعان كثيرة عند الفقهاء والأصوليين والنحويين، ومن تلك المعاني خلاف الأصل وعلى غير القياس؛ لذا فإن مفهوم العدول عن الأصول أو مفهوم خلاف الأصل هو مسلك استدلالي شرعي معتبر، متبع في التوصل إلى الأحكام الشرعية والتكليفية في الوقائع الخارجة في تشريعها عن أجناسها وأوصافها، لتلتحق بأحكام أخرى مخالفة لأحكام نظائرها على سبيل الاستثناء لأسباب معتبرة شرعًا، جنوحًا لتحقيق مقاصد الشارع الغائبة في حكم الأصل، خلافًا لمسلك الأصل فإن أحكامه واردة على مقتضي القياس، مساوقة لأجناس أفعال المكلفين، غير ناظرة لوضع بعض أعيانها، وفي ظني أن هذا المسلك من الاستدلالات العقلية التي تميزت بها الشريعة الإسلامية، حيث إنها شريعة ليست جامدة في أحكامها، بل إنها شريعة تتميز بارتباطها بمصلحة الإنسان.

والعدول عن الأصول لها أسباب وعلل تجعل العالم والفقيه يحيد عن الاعتبار بالأصل الذي أتت عليه المسألة، إلى ما لا يخطر على بال الإنسان العادي؛ وذلك لعلة وسبب، بيد أن ما لا يخطر على البال إذا ما رود في نص فإنه لا يُراد في العموم، إلا أن مسألة العدول عن الأصول فإن هذا العدول مراد حقيقية، وها هنا النكتة العلمية التي تُستفاد من تتبع القواعد والضوابط العلمية، والجمع بين متماثلاتها والتفريق بين متناقضاتها، إلا بقرينة ومصلحة أعظم، والعدول عن الأصول قد يكون بسبب الضرورة التي يقتضيها المقام، مثل استثمار الأموال في المصارف الأجنبية بالفوائد، وقد يكون بسبب الرخصة التي شرعتها الشريعة مثل سقوط الجمعة عن الطبيب المناوب.

وقد يكون العدول عن الأصول بسبب الذريعة، مثل تولية المرأة لجباية الزكاة أو الرتق العذري، وقد يكون بسبب الاستحسان، وهذا باب مهم جدًا لطالب العلم، وهو داخل في باب المعاملات، ويحتاجه الفقيه وطالب المعرفة.

ومن مسائله الإجارة المنتهية بالتمليك، وقد يكون العدول عن الأصول بسبب في المستثنى من القواعد الفقهية، والمستثنيات كثيرة جدًا في باب المعاملات، مثل عدم تضمين الأمين فيما أودع إليه، وفي باب الجنايات مثل مسألة الإجهاض من حمل غير شرعي، وقد يكون العدول عن الأصول بسبب عموم البلوى، وهذا يكثر في باب المعاملات مثل مسألة ثمنية الأوراق النقدية، وفي غير المعاملات مثل مسألة طواف الإفاضة للمرأة الحائض، وقد يكون العدول عن الأصول بسبب التغيرات والظروف الطارئة، مثل ما استجد من شراء الذهب بالبطاقات البنكية.

فيظهر للقارئ مدى أهمية هذا المصطلح العلمي، لمن يتنكب الدخول في عالم البحث والجدل والمناظرة في أبواب العلم والمعرفة والواقع العملي، إن كان مجاله يحتاج إلى بحث وإيراد على الأدلة والبحث في مدركاتها مثل المحامين.

ولعلي أهمس في أذن كل طالب علم، بأن الشهادات العلمية والحصول عليها ليست نهاية المطاف، بل لابد من البحث والقراءة والاطلاع على كل بحث يصدر في مجال التخصصات الأصلية والتابعة لها، ولا يكتسب الإنسان الخبرات إلا بمضي السنوات وبإعادة النظر والتأملات فيما قرأه من قبل، فإنه سيجد شيئًا جديدًا تسلل إلى فهمه لم يكن يُدركه من ذي قبل، فإذا وجد هذا فإنه على الطريق الصحيح، وأن الخبرات لا تزال تتراكم في مخزونه المعرفي.