النقد مشكلة مطروحة على بساط البحث. هل تصح أو لا تصح؟ فإن صحت فكيف، وعلى أي أساس، وإلى أية غاية. أينطلق الناقد من الأثر، فيشرحه ويحلله ويستخلص منه، كعمل إبداعي مستقل، حدوده وأحكامه وعالمه الخاص به وعطاءه الفريد؟ أم يتناول الأثر، فيقيسه بمقاييس سالفة تمت إلى هذا المذهب أو ذاك؟ ومن جهة أخرى، هل يجوز للناقد تقيم الأثر والحكم عليه، إطلاقًا، أم يكتفي بالأعراب عما تركه الأثر في نفسه وما أثاره فيه من مشاركة وتفاعل؟

هناك تساؤل من نوع آخر، هو ما يعنيني هنا. هل ننتقد الأثر من ضمن إطاره التاريخي وبمفاهيم الحقبة التي وضع فيها، أم ننقده بمعزل عن الزمان والمكان وبمفهومنا الراهن، بما في ذلك ذوقنا الناجم عن تطور الحياة حولنا وفينا؟ وبكلمة أخرى، هل للأثر الإبداعي، في حضرة الحقيقة المعراة أمام بصيرة الناقد، شفيع خارجي؟ هل يجوز تبريره بحدود الزمان والمكان؟

جوابي على ذلك أن لا. إذ لو أقام كل جيل شفيعًا خارجياً لآثار الأجيال التي سبقته، فلم ينتق فيها ما يجد فيه معنى لحياته الحاضرة المتطورة وعوناً له في سعيه نحو الأفضل - لأن هذا، في الأخير الأخير، علة وجود الأدب والفن إطلاقًا ـ لاختلط جيدها برديئها وتراكم بعضه فوق بعض في استمرارية توقع الأدب والفن في خطر الجمود. فمن طبيعة الحياة الحركة والتغير، كما من طبيعة العقل اليقظ إعادة النظر دائمًا وفي كل لحظة، فكيف من جيل إلى جيل. وكثيرًا ما يكتشف النقد آثارًا سالفة مغمورة، أو يبرز ناحية ما من نواحي أثر لم يكن له في زمنه، لأهل زمنه، المعنى الذي أصبح له اليوم. بل كثيرًا ما يخفض النقد من قدر أثر سالف أو يرفع منه. والأمثلة على ذلك عديدة في تاريخ الآداب والفنون.

في عملية الغربلة الدائمة هذه، جيلًا بعد جيل، تسمو بعض الآثار الى مرتبة «الروائع»، وهي في تاريخ الحضارة قليلة. من خصائص هذه الروائع أنها تنطوي على قيم ذات معنى لكل جيل متعاقب، مها تغيرت الحياة حوله وفيه. ويعود ذلك إلى انفلات «الرائعة»، من حيث هي شكل ومضمون معًا، من حدود الزمان والمكان واستقرارها في الوجدان الإنساني الذي لا يحده زمان ومكان. فالإنسان يتغير في الرأي، وفي طريقة الحياة، وفي العادات والتقاليد، وفي الإصرار على هذه القيمة أو تلك من قيم الحياة والوجود، إلا أنه في جوهره يظل هو هو. يحب أو يبغض، يسالم أو يحارب، يفرح أو يتألم، يأمل أو يخيب، يعدل أو يظلم، يطيع أو يتمرد، يصادق أو يخون، إلخ...، كما كان شأنه منذ آلاف السنين.

من هذا كله يتضح أن النتاج الإبداعي الذي يتجاوب مع جيل ما لأنه وجد فيه معنى لحياته، قد لا يتجاوب مع الأجيال اللاحقة لأنها لم تجد فيه أي معنى لحياتها. والعكس صحيح. على أن هنالك شرطًا أساسيًا لا يصدق هذا القول إلا به، وهو أن يكون الوجود الثقافي في الأجيال اللاحقة وجودًا متحركًا جامدًا، حرا لا مقيدًا، منفتحًا على الحضارة لا منغلقًا عليها. ففي مثل هذا الوجود فقط، يتاح للعقل الناقد الباحث أن يعيد النظر في تأثره بالإنسانية السالفة.

هذا الشرط قد بدأ يتحقق لنا اليوم، للمرة الأولى، منذ زوال آخر معقل لثقافتا العربية الإسلامية في الأندلس. فوجودنا الثقافي، بل وجودنا عامة، هو اليوم على طريق الحركة. لقد انطلق ولن تقوى على تجميده ثانية أية عقيدة كلية، ثابتة، معصومة، تلجأ إلى البقاء والاستمرار عن طريق الأنظمة الزمنية الفوقية وما تنطوي عليه من تشجيع له، ومن مد الكائن الإنساني جسرًا تعبره الدعوات المثالية المجردة إلى بناء «المجتمعات الفضلى».

ساقتني إلى هذا القول مطالعتي الأخيرة لـ «شعر الأخطل الصغير»، بشاره عبدالله الخوري، هذا الشاعر الذي تبوأ بين الحربين العالميتين، ولا يزال، مكان الصدارة في الشعر العربي المعاصر، درسنا له القصائد ودرسناها، ورويت لنا ورويناها، وغنيت على مسامعنا فرددنا الغناء كان يمثل لبنان في المناسبات الكبرى، هنا وفي المواسم العربية، فيبيض الوجه ويخلع على المناسبة وشاح الرقة والصفاء والزهو. وكان إلى ذلك رفيق كبار شعراء الجيل وجليسهم، ولعله كان أصغرهم سنًّا. حتى لقد سأله شوفي أن يرثيه بعد وفاته، كما يروي هو، وكما تعلم من هذا البيت في مرثيته:

سألتنيه رثاء خذه من كبدي

لا يخرج الشيء إلا من مصادره.

1961*

*شاعر، وكاتب، وصحفي لبناني ( 1916 - 1987)