دشن كتاب الأمريكي (جون رولز) (نظرية العدالة) في عام 1971، نقاشًا كونيًا حول (موضوع القيم وفلسفتها) ليحتل الصدارة في البحوث وعوالم الدين والاجتماع والاقتصاد والسياسة والدولة.

الأفق الذي تحرك فيه رولز يتراوح بين مسألة الحقوق المدنية التي أثيرت في الولايات المتحدة بسبب التمييز ضد السود وحرب فيتنام والتي انقسم الأمريكيون حولها في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي.

بعد كتاب رولز اشتعل النقاش على المستويات كلّها، بل صار معظم الحديث خارج علوم السياسة والقانون كلامًا في فلسفة القيم، تجددت البحوث وتطورت حول قيم أُخرى مثل الحرية والكرامة والمسؤولية والاعتراف، وكلها أمور تتعلق بالدين والأخلاق والقوانين والأنظمة والعلاقات بين الناس.

هل توجد قيم حقا

كما شغل، موضوع القيم، العالم في العقود الأخيرة لأهميته في بناء العلاقات بين الأمم والمجتمعات والدول، واحتل مساحة واسعة من النقاش في منظمة الأمم المتحدة، والمفوضيات والوكالات المتخصصة والتابعة لها مثل اليونيسكو، ومجلس حقوق الإنسان، كان بديهيًا أن يشغل العالم العربي، ومن هذا المنطلق وضع الدكتور محمد الشيخ (المؤنس في القيم)، كتاب قدّمه بقراءة سريعة في موضوع القيم وفلسفتها وإمكانها، والمعالجات الحديثة والعصرية لها. ثم انصرف لدراسة خمس قيم مصطلحًا ومعاني وكيف تطورت البحوث الحديثة والمعاصرة حولها، وهي (الكرامة والحرية والمسؤولية والعدالة والاعتراف). طارحًا الأسئلة الكبرى شديدة الارتباط بالفكرة الأساسية، ومنها (هل توجد القيم حقًا أم أن القيم مجرد أوهام؟ ما معنى «القيم»؟ في حال نفي القيم، ما الذي يترتب عن هذا النفي؟ وهل يمكن للإنسان أن يعمى عن القيم؟ وهل يمكن حقًا للقيم أن تنعدم وأن تنكر؟ هل القيم ذاتية أم موضوعية؟ القيم ثابتة ساكنة أم أنها أبدًا متبدلة متحولة متغيرة؟ وهل هي واحدة أم متعددة؟ نسبية أم مطلقة؟

حديث خرافة

يستهل الكتاب أطروحته بمناقشة دعوى «العدمية» نفي وجود القيم وإنكارها، وإن هي وجدت فلا معنى لها، لافتًا إلى أن ثمة من مفكري الأخلاق وأدبائها من يثبت وجود القيم ويؤمن بحضورها في حياة الإنسان ويُصدق بأثرها في اعتقاده وسلوكه، وهم الأكثرية من المفكرين والأغلبية من أهل الأدب.

لكن ثمة منهم، بالمقابل، من ينكر وجود القيم وينفي أثرها في حياة الناس ويقول: لئن كانت ثمة من قيم فهي على الحقيقة «اللا قيم»؛ أما القيم فذاك حديث خرافة.

وليس يعدم المرء أن يعثر على نماذج عديدة فريدة خلدتها لنا تصانيف مفكّري القيم وكتاب الأدب العالميين «تنفي» و«تفكر» وجود «أمر» أو «شأن اسمه «القيم».

رفض نظام القيم

ولأن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإن الكتب في القيم يكتبها، على نطاق واسع، المؤمنون بالقيم. من هذا الفكرة يستحضر المؤلف، مواقف من صوّر الأدب العالمي للشخصيات المنكرة للقيم خير تصوير، وقال إن من أشهر النماذج:

إيفان تورغنيف بازاروف بتصويره الواقع العدمي في (رواية الآباء والبنون)، ذاهبًا إلى أنه لا مذهب للعدمي، إذ المذهب يفترض أن ثمة معنى لما نعيشه والعدمي لا يجد لما نحياه معنى اللهم إلا إن صار عدم المعنى معنى، واستحال عدم المذهب مذهبًا، والحال أنه عادة ما يميل العدمي - أي ذاك الذي من شأنه أن ينكر القيم - إلى رفض كل القيم والمبادئ المتعارف عليها في حياة الناس؛ أي إلى رفض نظام القيم الاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي والسياسي والثقافي والديني الذي يحكم حياة الجماعة، فإذا ما أنت سألته عن البديل الذي يراه أو يرتئيه، وجدته يؤمن أن البديل هو أن ليس ثمة من بديل ولئن كان ثمة من بديل فهو الرفض نفسه والإنكار والنقد والتمرد.

الكرامة مرتهنة بالحياة

أثارت هذه الرواية الكثير من الجدل بسبب شخصيتها الرئيسية المثيرة للجدل «بازاروف» الطبيب الشاب المتمرّد على كل القيم التي يؤمن بها مجتمعه. وقد كان استضافه صديقه وتلميذه ومضيفه الشاب الأرستقراطي أركادي - المتأثر شديد التأثر بأفكاره - في بيت أسرته وقدّمه إلى عمه بافل بيتروفيتش. لتجري حوارات وأحداث، تتعلق بالكرامة..

إذ، يبرز أن كرامة الإنسان عنده - عمه - أولًا، في أصله، في خلقه من لدن الرب في الصورة الربانية التي صوّرها عليه، وفي كرامة العهد المقبل؛ أي بعث الأجساد ورؤية الله وشفافية الصلات بين الأرواح في مملكة السماوات.. ذلك أن فكرة «الكرامة» نفسها تتضمّن فكرة الخلود»، وإلا فما الذي تكون عليه كرامة مؤقتة ومحدودة بالموت؟

على أن الكرامة تبقى مرتهنة بالحياة الآخرة أكثر مما هي مناطة بالحياة الدنيا، وهذا حدّها الذي وقفت عنده، فما تطوّرت هي التطور.

والأمر أوضح ما يكون عند جانوتي مانيتي (1396-1459) في كتابه «في كرامة وأفضلية الإنسان (1452). إذ عمل هذا حقيقة على إنزال مختلف سمات الكرامة البشرية من السماء إلى الأرض، فكان أن قلل من شأن الخطيئة الأصلية.

كونية كل البشر

يطرح الكتاب مسألة (التعدد الثقافي) وما تدور عليه من مفاهيم (الهوية) و(الخصوصية) و(الاعتراف).. مشيرًا إلى أن البوادر الأولى للمجتمع الليبرالي بأمريكا القرن الثامن عشر وبإنجلترا القرن التاسع عشر، لم تكن لتجد أمامها مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، وإنما وجدت مجتمعات منسجمة بانسجام يكاد يكون تامًا: وحدة في اللسان والأصل العرقي والهوية القومية، بل وحتى في الإيمان المسيحي.

كما يتناول الكتاب مأزق المجتمعات الحديثة التي ألفت نفسها - في العقود الأخيرة - على قرني إحراج قائلًا: إن مقتضى مبدأ الكرامة - كل الكائنات البشرية تستحق أن تحترم على جهة المساواة بحيث لا فرق - إنما هو تحقيق كونية بل سوية بين كل البشر؛ بما ينتج عنه محو التمايزات والتراتبيات القديمة، بل وكل الاختلافات والتباينات مما يؤدي إلى صهر الكل في بوتقة واحدة بحيث لا تمايز وإنما هوية أغلبية مهيمنة.